التصنيف: مــقــالات سيــاســيـة

مقالات وكتابات حول السياسة السودانية والعالمية

  • الوضع الاقتصادي العام في السودان في عام ٢٠٢٥

    القفزة الاقتصادية السودانية ٢٠٢٥-٢٠٣٥م (١ من ١٠)

    مقدمة:

    يمر السودان بأزمة اقتصادية طاحنة تُعد من أسوأ الأزمات في تاريخه الحديث، نتيجة للحرب الدائرة منذ أبريل 2023 والتي اطلقتها مليشيا الدعم السريع (RSF) وحلفاءها الداخليين والخارجيين .

    لقد خلفت هذه الحرب دماراً شاملاً في البنية التحتية، وانهياراً في النظام المالي، وموجة نزوح ولجوء غير مسبوقة، مع تفاقم المجاعة والفقر والتضخم.

    بذلك اصبح الوضع الاقتصادي هشًا للغاية، مع مؤشرات كارثية شملت انكماش الناتج المحلي، تضخمًا فاحشًا، ارتفاع الديون إلى مستويات غير مسبوقة، وتفكك في البنية التحتية للخدمات والقطاعات الإنتاجية.

    رغماً عن كل ذلك، فإن السودان لا يزال يملك إمكانيات وفرصًا مهمة في موارده الطبيعية والبشرية قد تُسهم في إنقاذه إذا أُحسن استغلالها في مرحلة ما بعد الحرب.

    في سلسلة المقالات هذه نطرح برنامجاً طموحاً للنهوض والقفزة الاقتصادية خلال الفترة ٢٠٢٥-٢٠٣٥ ، وباستخدام حلول ثورية ومتقدمة في مجال الاقتصاد والتقنية والادارة.

    الحلقة الاولى : الوضع الاقتصادي العام في السودان في عام ٢٠٢٥

    لطرح اي برامج للنهضة الاقتصادية، لا بد ان ننطلق من معرفة موضوعية بماضي وحاضر الاقتصاد السوداني، وجملة الظروف الداخلية والخارجية التي تتحكم فيه، والامكانيات المستغلة والكامنة فيه.

    في الفقرات أدناه أقدم عرضاً سريعاً لواقع الاقتصاد السوداني في عام ٢٠٢٥م

    أولاً: السياق العام والوضع الإنساني:

    أدت الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 إلى انهيار شبه كامل في معظم أوجه الحياة الاقتصادية والاجتماعية. أبرز ملامح هذا الانهيار:

    – أكثر من 150,000 قتيل، بينهم حوالي 7,500 مدني.

    – حوالي 11.8 مليون نازح داخليًا، يشكلون أكبر موجة نزوح داخلي في العالم.

    – أكثر من 4 ملايين لاجئ سوداني عبروا الحدود إلى دول الجوار.

    – 25 مليون شخص – أي نحو نصف السكان – في حاجة ماسة لمساعدات إنسانية عاجلة.

    – انهيار قطاع الصحة بنسبة تفوق 80% في مناطق النزاع، واختفاء شبه تام للخدمات الأساسية في دارفور وكردفان.

    – حوالي 250,000 حالة وفاة بين الأطفال الرضّع بسبب نقص الادوية وسوء التغذية الحاد.

    – دمار أكثر من 33,000 مبنى في الخرطوم وحدها، وخسائر هائلة في القطاعين العام والخاص.

    كل هذه المعطيات تشير إلى انهيار شبه شامل في بنية الدولة والإقتصاد، ما يستوجب تدخلًا اقتصاديًا وإنسانيًا واسعًا لإعادة بناء السودان.

    ثانياً: المؤشرات الاقتصادية الكلية:

    تعكس المؤشرات الاقتصادية للسودان في 2025 مدى عمق الانهيار المالي والاقتصادي الذي تعرضت له الدولة، وجاءت كالتالي:

    الناتج المحلي الإجمالي (GDP):

    تراجع بنسبة -37.5% في عام 2023.

    تراجع إضافي بنسبة -5.9% في 2024.

    نمو طفيف متوقع بـ0.5% في 2025 حال تحقق السلام والاستقرار.

    معدل التضخم: بلغ 118.9% في 2025، مما أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار السلع الأساسية وانخفاض القوة الشرائية.

    نسبة الفقر: ارتفعت إلى 76% من السكان، أي حوالي 39.3 مليون سوداني يعيشون تحت خط الفقر.

    العجز في الحساب الجاري: بلغ 7.3% من الناتج المحلي الإجمالي.

    الاحتياطي الأجنبي: لا يغطي سوى شهر واحد من الاستيراد، مما يعكس هشاشة قدرة الدولة على تغطية وارداتها الأساسية.

    سوق العمل:

    – فقدان أكثر من 5.2 مليون وظيفة نتيجة لانهيار قطاع الخدمات.

    – هروب واسع لرأس المال البشري إلى الخارج.

    ثالثاً: قطاع الزراعة:

    يُعد القطاع الزراعي العمود الفقري للاقتصاد السوداني، حيث يُشغّل ما يزيد عن 80% من القوة العاملة، ويساهم بما يقارب 40% من الناتج المحلي الإجمالي. إلا أن الحرب أثرت عليه بشدة، خاصة في ولايات دارفور وكردفان والجزيرة وسنار والنيل الأبيض، وهي المناطق الزراعية الأهم في البلاد.

    الخسائر الكبرى في القطاع الزراعي:

    – انخفاض إنتاج الحبوب بنسبة 80% في دارفور وكردفان بسبب النزاع والنزوح الجماعي وغياب التمويل والمدخلات الزراعية.

    – تراجع إنتاج القطن في مشروع الجزيرة إلى أدنى مستوياته منذ تأسيس المشروع في 1925، بسبب إيقاف الري ونقص العمالة.

    غياب السياسات الزراعية والتمويل: حيث توقف البنك الزراعي عن تمويل معظم المشاريع الزراعية بسبب الأزمة النقدية.

    المنتجات الزراعية الرئيسية في 2025:

    – السمسم: ~700,000 طن، يشكل أحد أهم صادرات السودان (بلغت قيمته 746 مليون دولار عام 2024.

    – الفول السوداني: 1.5 مليون طن، بقيمة تصديرية بلغت ~143 مليون دولار في 2024.

    – الذرة الرفيعة: 5 ملايين طن – لكنها تراجعت بنسبة 80% في مناطق الحرب.

    – الصمغ العربي: 50,000 طن، يُصدر منه ما يعادل 100 مليون دولار سنويًا رغم التهريب وانعدام الرقابة.

    – البرسيم والخضر والفواكه: تراجع انتاجها بشكل كبير بسبب انهيار نظم النقل والتبريد والأسواق.

    التحديات الإضافية:

    – الجفاف والعطش في مشروع الجزيرة وامتداداته نتيجة لضعف التدفق المائي بسبب سد الدمار الاثيوبي.

    – فقدان المدخلات الزراعية المخزنة في العاصمة ومدني (أسمدة، مبيدات، بذور).

    – انعدام الأمن في الحقول.

    – نزوح المزارعين وانهيار الأسواق الريفية.

    رابعاً: قطاع المعادن:

    يمتلك السودان موارد معدنية ضخمة، خاصة في مجالات الذهب، النحاس، الحديد والكروم. لكن الحرب والأزمات السياسية حالت دون تطوير هذا القطاع بصورة منهجية.

    الذهب:

    – انتج السودان في عام 2024 نحو 64.36 طنًا من الذهب، بقيمة سوقية بلغت 1.51 مليار دولار.

    – حوالي 83% من هذا الإنتاج يتم عبر التعدين التقليدي غير المنظم، والذي يُنتج في ظروف صعبة، دون رقابة بيئية أو مالية.

    – يُهرّب أكثر من 34% من الذهب إلى خارج البلاد، عبر ولايات دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق الخ. وهو ما يمثل خسارة ضخمة للاقتصاد القومي.

    النحاس:

    – توجد احتياطات ضخمة في جبل أوهير بولاية البحر الأحمر، تقدر بـ1.95 مليون طن من خام النحاس عالي الجودة.

    – القيمة النظرية لهذا الاحتياطي تُقدّر بـ 17.5 مليار دولار، ما يجعل السودان من أكبر دول المنطقة ثروة في هذا المعدن.

    – لا توجد حتى الآن استثمارات كبيرة في استخراج النحاس.

    الحديد:

    – احتياطات السودان المؤكدة من خام الحديد تتجاوز 2 مليار طن، لا سيما في مناطق البحر الأحمر وغرب السودان.

    – القيمة الاقتصادية النظرية لهذه الاحتياطات تقارب 200 مليار دولار، لكنها غير مستغلة.

    معادن أخرى واعدة:

    – الكروم: احتياطات ضخمة في النيل الأزرق والبحر الأحمر.

    – الفوسفات: مؤكد وجوده في ولاية نهر النيل.

    – الفضة، الرصاص، الزنك، التيتانيوم: لم يتم استغلالها بعد نتيجة ضعف البنية الجيولوجية والتنظيمية.

    خامساً : قطاع الطاقة:

    يمتلك السودان إمكانيات طاقوية كبيرة، لكنه يعاني من اختلالات هيكلية تفاقمت بفعل الحرب. ومع توفر احتياطات نفطية مؤكدة، وموارد هائلة من الطاقة المتجددة، إلا أن هذه الإمكانات لم تُستغل بعد بصورة منهجية.

    النفط والغاز:الإنتاج الحالي لا يتجاوز 60,000 برميل يوميًا، مقارنة بـ120,000 قبل الحرب. معظم الحقول متضررة، والتنقيب متوقف. الاحتياطي المؤكد يتجاوز 1.5 مليار برميل.

    الغاز الطبيعي:

    تشير تقديرات هيئة البترول السودانية وهيئة المسح الجيولوجي الأمريكية إلى وجود احتياطات تفوق 4.5 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي، موزعة بين حوض طوكر، النيل الأزرق، وسواكن. لم يُستغل هذا المورد بعد، لغياب البنية الأساسية والكيانات المختصة.

    الطاقة المتجددة:

    – يتمتع السودان بإشعاع شمسي من بين الأعلى عالميًا، بمتوسط 6.1 كيلوواط/ساعة/متر مربع يوميًا، ما يجعله مثاليًا للاستثمار في الطاقة الشمسية.

    – كذلك، فإن الرياح في المناطق الساحلية (بورتسودان، طوكر، سواكن) والشمالية (دنقلا، عطبرة) تسمح بإنتاج طاقة رياح مستدامة بقدرة تصل إلى 15,000 ميغاواط بحسب دراسات IRENA.

    – تمتلك البلاد 5 سدود عاملة (مروي، الروصيرص، سنار، خشم القربة، أعالي عطبرة وستيت)، لكن معظمها يعمل بأقل من 50% من طاقته التصميمية بسبب ضعف وصول المياه بعد تخزين السد الاثيوبي وتراكم الطمي وضعف الصيانة.

    سادساً : قطاع الصناعة:

    تدهور هذا القطاع تدريجياً على مدى 40 عامًا، وبلغ التدهور ذروته مع دمار المناطق الصناعية. مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي الاجمالي تراجعت إلى أقل من 6% مقارنة بـ14% عام 2010.

    الوضع الحالي:

    * تدمير أو توقف أكثر من 70% من المصانع، فضلاً عن غياب الطاقة الكهربائية والنقل وضعف الإمدادات

    * اختفاء العديد من الصناعات الدوائية،الغذائية، النسيج.

    * تدمير الصناعة في ولاية الخرطوم تماماً، وبقاء محدود لبعض المصانع المتوسطة في عطبرة وبورتسودان.

    – بعض المصانع الصغيرة في القضارف وسنجة وربك / كوستي عاودت العمل مؤخرًا، لكن بطاقة محدودة.

    اهم الصناعات المتضررة:

    – الصناعات الغذائية: مثل مطاحن الدقيق ومصانع الزيوت والسكر، التي تعطلت بسبب غياب التمويل والنقل.

    – الصناعات الدوائية: أكثر من 12 مصنعًا تم تدميرها جزئيًا أو كليًا، مما ساهم في أزمة دواء وطنية.

    – صناعة الغزل والنسيج: كانت تعمل بـ20% من طاقتها قبل الحرب، وتوقفت بالكامل منذ مايو 2023.

    سابعاً : قطاع الأعمال والتجارة:

    تأثر قطاع الأعمال والتجارة بشدة بالحرب، وفقد السوق السوداني تماسكه الداخلي والخارجي.

    على مستوى السوق الداخلي كانت اهم المشاكل كالتالي:

    – تضخم السوق الموازي.

    – اختلاف الأسعار بين المناطق.

    – فقدان سلاسل الإمداد.

    على مستوى السوق الخارجي كانت اهم المشاكل كالتالي:

    – تراجع الصادرات إلى 2.4 مليار دولار.

    – سيطرة التهريب على الذهب والثروة الحيوانية وخصوصاً في الاقاليم الغربية.

    – بطء في التخليص الجمركي، وتوقف في مشاريع تطوير المؤاني.

    أهم الشركات العاملة في السودان حالياً:

    رغم ظروف الحرب والانهيار شبه التام للبنية التحتية لقطاع الاعمال والتجارة، إلا أن بعض الشركات الكبرى ما زالت تحاول الصمود:

    شركات محلية ودولية بارزة:

    – مجموعة دال: أكبر مجموعة اقتصادية سودانية، تعمل في مجالات الأغذية، الزراعة، الطاقة، والنقل. نقلت جزءًا من عملياتها إلى بورتسودان وحافظت على بعض نشاطها في المناطق الآمنة.

    – شركة زين السودان أكبر مزود للاتصالات، وواصلت تقديم خدماتها الرقمية رغم تعرض أبراج الاتصالات للنهب والتدمير. لعبت دورًا محوريًا في استمرار المعاملات المالية عبر تطبيق Bankak.

    – شركة سكر كنانة : تضررت بشدة من الحرب، خاصة بعد توقف الري في مناطق المشروع.

    – Sudatel وMTN: واجهتا تحديات كبيرة، مع فقدان أكثر من 60% من الشبكة في مناطق النزاع.

    الخسائر:

    – تقدر الخسائر المباشرة وغير المباشرة للشركات الكبرى بعدة مليارات من الدولارات.

    – كثير من المصانع (مثل مصانع الأدوية والمواد الغذائية) والشركات والمخازن إما دُمّرت أو نُهبت.

    – بعض الشركات نقلت مقارها إلى الخارج أو إلى المناطق الاخرى كعطبرة او بورتسودان.

    ثامناً : النظام المصرفي والبنك المركزي

    شهد النظام المصرفي السوداني في 2023 و2024 انهيارًا غير مسبوق:

    البنك المركزي السوداني (CBOS):

    – دُمّر مقره في الخرطوم في أبريل 2023 خلال قصف عنيف.

    – تم نهب 1.3 طن من الذهب بقيمة تقارب 150 مليون دولار من خزائن البنك المركزي بواسطة قوات الدعم السريع، حسب تقارير الأمم المتحدة.

    – انقطعت معظم فروع البنك المركزي عن الاتصال بالأنظمة المالية الدولية.

    القطاع المصرفي:

    – خسرت المصارف السودانية أكثر من 4 مليارات دولار من الأصول، منها أرصدة مودعين وشركات.

    – اكثر من 80% من العملة المحلية أصبحت خارج النظام المصرفي، ما خلق اقتصادًا نقديًا غير مراقب.

    – البنوك الكبرى (بنك الخرطوم، بنك فيصل الإسلامي، بنك النيل، بنك الادخار، وغيرهم) أغلقت معظم فروعها في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع.

    – تم إدخال أوراق مالية جديدة من فئات 500 و1000 جنيه في نهاية 2024، لكنها لم تُوزّع إلا في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، مما عمّق الانقسام المالي في البلاد.

    تاسعاً : الدين العام

    يُعد الدين العام السوداني من أكثر الملفات تعقيدًا وخطورة، حيث ارتفعت مديونية السودان خلال السنوات الأخيرة إلى مستويات غير مسبوقة، ما يجعلها عبئًا خانقًا على الاقتصاد ومهددًا لاستقراره المستقبلي.

    أرقام رئيسية في 2025:

    – إجمالي الدين العام (داخلي + خارجي): بلغ 25,6 مليار دولار، وهو ما يعادل 272% من الناتج المحلي الإجمالي.

    – الدين الخارجي فقط: يبلغ 22.6 مليار دولار، بعد توقف معظم مبادرات إعفاء الديون التي كانت مقررة في إطار مبادرة HIPC (البلدان الفقيرة المثقلة بالديون).

    أهم الدائنين الدوليين:

    – الكويت: حوالي 9.8 مليار دولار، وهي أكبر دائن عربي للسودان.

    – السعودية: حوالي 3 مليار دولار، خاصة من ودائع واستثمارات سابقة في بنك السودان.

    – نادي باريس: ديون تجاه فرنسا، النمسا، وأمريكا.

    – صندوق النقد الدولي والبنك الدولي: الديون الرسمية والمتأخرة عليهما تقدر بـ3.7 مليار دولار.

    الإشكاليات:

    – استمرار الحرب أوقف جميع عمليات إعادة هيكلة الديون.

    – انعدام الثقة في الحكومة السودانية منع أي التزام خارجي بالتمويل أو إعفاء.

    – ضعف الإيرادات العامة يجعل سداد الفوائد وحدها عبئًا غير ممكن دون المساعدات.

    عاشراً : التحول الرقمي والاتصالات:

    رغم انهيار الدولة، شكّل التحول الرقمي إحدى أدوات البقاء والابتكار، لا سيما في ظل تدمير الخدمات التقليدية وخروج المصارف عن الخدمة.

    الاتصالات:

    – 60% من الشبكات خارجة عن الخدمة.

    – انخفاض التغطية إلى أقل من 48%.

    – الإنترنت ضعيف أو غائب في معظم المناطق.

    الخدمات المالية الرقمية:

    – بعض المصارف مثل بنك الخرطوم حاولت التوسع في الخدمات الرقمية.

    – تطبيق Bankak نفذ أكثر من 50 مليون معاملة خلال عامين.

    – بروز محافظ إلكترونية بديلة رغم غياب الإطار القانوني.

    العملات الرقمية:

    – توسع في استخدام العملات الرقمية وخصوصا وسط الشباب والسودانيين بالخارج.

    – ظهور أسواق تقبل العملات الرقمية محليًا.

    الفراغ التنظيمي:

    – لا هيئة رقمية وطنية.

    – لا قوانين لحماية البيانات أو العملات المشفرة.

    حادي عشر: التحديات الاقتصادية الكبرى:

    يواجه الاقتصاد السوداني جملة من التحديات البنيوية والفورية تعيق أي إمكانية للتعافي دون إصلاحات شاملة وجذرية.

    أبرز التحديات:

    – التهريب الواسع للذهب (34% من الإنتاج السنوي يُهرّب).

    – غياب الأمن في مناطق الإنتاج الحيوي (دارفور، كردفان، تخوم النيل الابيض والشمالية).

    – عدم الاستقرار السياسي وانقسام الصلاحيات بين جهات مختلفة.

    – الافتقار إلى الشفافية والمساءلة في إدارة المال العام.

    – العقوبات الدولية المتجددة وتعليق مبادرات الدعم الدولي.

    – غياب دور الميزانية العامة وضعف فدرة الحكومة المركزية على التخطيط الاقتصادي.

    – الانهيار الكامل للعمل المؤسسي في الوزارات الاقتصادية مثل المالية والتخطيط والزراعة والصناعة.

    – ضعف الرقابة على الشركات المملوكة للجيش والأمن والدعم السريع، والتي تسيطر على قطاعات حيوية دون مساءلة أو شفافية.

    ثاني عشر: الفرص المتاحة لإعادة بناء الاقتصاد:

    رغم حجم الكارثة، إلا أن السودان لا يزال يمتلك فرصًا واعدة لإعادة بناء اقتصاده، بشرط توفر الإرادة السياسية، ووقف الحرب، وقيام حكومة انتقالية فعالة ذات شرعية واسعة.

    1. الموارد الطبيعية الهائلة:

    – الزراعة: الأراضي الصالحة للزراعة تغطي أكثر من 100 مليون فدان، ويمكن أن تُحول السودان إلى سلة غذاء لأفريقيا والعالم العربي إذا توفرت البنية التحتية والدعم الفني.

    – المعادن: امتلاك السودان لاحتياطات كبيرة من الذهب، النحاس، الحديد، الفوسفات، الكروم، التيتانيوم، وغيرها، يمكن أن يشكل أساسًا قويًا لاقتصاد تعديني حديث.

    – موقع السودان الجغرافي على البحر الأحمر يتيح له فرصًا لوجستية وتجارية ضخمة إذا أعيد تأهيل الموانئ وربطها بالشبكة القارية.

    2. رأس المال البشري:

    – رغم النزيف الحاد للهجرة، لا يزال السودان يحتفظ بنسبة كبيرة من الشباب المتعلمين، ويمكن الاستثمار فيهم من خلال برامج تدريب وتحفيز للعودة.

    – المهجر السوداني (الدياسبورا) يمكن أن يلعب دورًا كبيرًا في التحويلات المالية والاستثمار والخبرة إذا وُضعت حوافز كافية لربطهم بالاقتصاد الوطني.

    3. التحول الرقمي والتكنولوجيا المالية:

    – فرض الواقع على المواطنين استخدام الحلول الرقمية، مما يوفر أساسًا لبناء اقتصاد لا نقدي (cashless).

    – يمكن للسودان أن يقفز مباشرة إلى مرحلة الاقتصاد الرقمي باستخدام البنية المتوفرة (الاتصالات، التطبيقات)، وتطوير إطار قانوني مشجع.

    4. فرص الشراكات الإقليمية والدولية:

    – السودان جزء من مبادرة الربط الإقليمي الأفريقي (AfCFTA) ومؤهل ليكون ممرًا بريًا وتجاريًا بين دول غرب وشرق أفريقيا.

    – إذا استقرت الأوضاع، يمكن للسودان أن يجذب استثمارات ضخمة من الخليج، الاتحاد الأوروبي، والصين، والولايات المتحدة في مجالات الزراعة والطاقة والمعادن.

    5. الموارد المائية:

    – يمتلك السودان موقعًا مائيًا استراتيجيًا على نهر النيل، ويمكن أن يطوّر مشاريع ري وكهرباء مستدامة إذا أعيد النظر في سياسات إدارة المياه.

    الخاتمة:

    إن الوضع الاقتصادي في السودان لعام 2025 يمثل قمة الانهيار بعد سنوات من الفساد، سوء الإدارة، والانقسام السياسي، وقد جاءت الحرب لتقضي على ما تبقى من مؤسسات الدولة.

    ومع ذلك، فإن حجم الفرص والإمكانات الكامنة لا يزال كبيرًا، ويمكن للسودان أن يتحول إلى قصة نجاح نادرة في أفريقيا إذا توفرت له الارادة السياسية والخطط السليمة والتنفيذ المثابر الناجح.

    في الحلقات القادمة سوف نتناول بعض الخطط والمشاريع الثورية لانهاض الاقتصاد والقفز به خلال العشر سنوات القادمة.

    عادل عبد العاطي

    ٢٣ يوليو ٢٠٢٥م

    ملاحظات:

    ١- المقال اعلاه جزء من بحث كبير وموسع عن الوضع الاقتصادي السوداني الحالي اثرت هنا اختصاره لتسهيل القراءة على القاريء غير المتخصص.

    ٢- لم أشر الى البيانات والمؤشرات والإمكانيات الاقتصادية في اقليمي كردفان ودارفور، الا فيما ندر، حتى يتم تحريرهما من دنس المليشيا وحلفاءها، وتحليل الوضع بهما بدقة ووضع برامج خاصة للقفزة الاقتصادية فيهما.

  • عشر مغالطات قاتلة للقحاطة والحربويات

    يقوم موقف القحاطة والحربويات من دعاة “لا للحرب”، وهي دعوة حق اريد بها باطل، على سلسلة من المغالطات الجوهرية، التي جعلتهم في موقع الحياد الزائف والتواطؤ مع المليشيا. ادناه عشرة من هذه المغالطات:

    1. التعامي عن مشروع المليشيا العنصري الفاشستي

    أخطر ما ارتكبه القحاطة والحربويات هو تجاهل مشروع آل دقلو الواضح: إقامة دولة عنصرية أُسرية قائمة على التغيير الديمغرافي، الاستيطان، والإرهاب، بدعم خارجي معلن (الأمارات). لم نسمع من قادتهم ولا كوادرهم إشارة واحدة لهذا المشروع العنصري الفاشي، ولا عن الدعم الأماراتي له، لأنهم عندما يتغاضون عنه قصداً، يتحول صمتهم إلى تواطؤ.

    2. تعريف مضلل للحرب

    وصفوا الصراع بأنه “حرب عبثية بين طرفين يتقاتلان على السلطة”. هذا توصيف مغلوط يخفي حقيقة أنها حرب وجودية أشعلتها الميليشيا ضد الدولة والشعب السوداني، بهدف تهجير الشعب واذلاله وافقاره وأضعافه، وتقويض مؤسسات الدولة في السودان، وإحلال سلطة أسرية تأتمر للخارج مكانهما.

    3. شعار زائف

    رفعوا شعار “لا للحرب” ظاهريا ً في وجه الطرفين معاً وفي الحقيقة في وجه الشعب والجيش. تجاهلوا ان الجاني هو المليشيا والضحية هو الشعب السوداني. استكثروا حتى على المستنفرين حماية اهلهم ونفسهم؛،بينما كان المنطق والعدالة يفرضان أن يوجَّه هذا الشعار إلى المليشيا في المقام الاول . مساواة المهاجم بالمدافع هي مشاركة مباشرة في الجريمة.

    4. شيطنة الجيش

    تبنوا رواية الميليشيا عن “كيزانية الجيش” واتهامه بإشعال الحرب، معتمدين على حادثة المدينة الرياضية كذريعة. بينما الوقائع تشير بوضوح إلى أن الميليشيا هي من حركت أكثر من 70 ألف مقاتل وأدخلتهم الخرطوم، وحاصرت القواعد العسكرية، واقتحمت مطارات مروي والأبيض قبل بدء الحرب بأيام .

    5. تجريم المؤسسة العسكرية

    ألقوا باللوم على الجيش في نشوء الميليشيا، متجاهلين أن القرار كان سياسياً بالكامل وتتحمل مسؤوليته حكومة الإنقاذ والمؤتمر الوطني. فوق ذلك، أطلقوا حملة إعلامية منسقة لنزع شرعية الجيش وتحييد الدعم الشعبي له في لحظات كان الجيش بأمس الحاجة إلى التفاف الشعب حوله، وكان الشعب في أمس الحاجة لحماية الجيش له.

    6. إعلان أديس المخزي

    وقعوا اتفاقاً سياسياً مع الميليشيا بينما دماء الشهداء لم تجف بعد في الخرطوم ودارفور والجزيرة. زعموا ان الإعلان هو محاولة لإيقاف الحرب بينما فعلياً اعترفوا فيه للمرة الألف بالمليشيا كما أعترفوا فيه بما تسميه أداراتها المدنية وهي سلطات إحتلال. كان هذا الإعلان خيانة صريحة للشعب وهو يتعرض للقمع والقتل، وطعنة في ظهر المقاومين من عسكريين ومدنيين الذين كانوا يواجهون آلة القتل الجنجويدية.

    7. الدعوة للتدخل الدولي

    طالبت قحط/ تقدم على لسان الاهطل حمدوك بفرض حظر طيران على الجيش، وإقامة مناطق آمنة تحت ذريعة حماية المدنيين، بينما لم تطالب مرة بفك حصار الفاشر او بابنوسة او المجلد او الدلنج. هذه الدعوات للتدخل الدولي وحظر الطيران وحظر السلاح كانت ولا زالت تخفي في باطنها هدفاً واحدًا وحيداً: إنقاذ الميليشيا من الهزيمة، وفرض تسوية استسلامية على الجيش.

    8. اتهامات باطلة

    اتهموا الجيش بارتكاب انتهاكات ممنهجة، بالاغتصاب في أم درمان، وبالاستعانة بمرتزقة من “داعش” و”التيقراي” و”الأوكران” وبإستخدام الأسلحة الكيماوية الخ، في تماه تام مع دعاية المليشيا. كانت هذه دعايات كاذبة، هدفها المساواة بين الأضرار الجانبية لعمليات الجيش والانتهاكات الفردية لبعض أعضاءه، وبين الابادة الجماعية والتطهير العرقي والجرائم المنظمة التي ارتكبتها الميليشيا ضد المدنيين، والتي هي طبيعة ثابتة فيها.

    9. تضخيم قوة الميليشيا

    روجوا لفكرة أن الميليشيا قوة لا تُهزم، واعتبروا صمود الجيش ضعفاً وجبناً لأنه “تحصن بالثكنات” في بداية الحرب، بل دعوا الجيش لأن يستسلم كما اليابان، وكانوا يسخرون منه ويتحدونه أن يأتي لتحرير البيوت المحتلة ( التور حمد). تجاهلوا عمداً أن الجيش كان يمارس تكتيكاته كجيش نظامي، وقد أثبت لاحقاً قدرته على الصمود والتقدم في الميدان.

    10. الزعم بأن لا حرب انتهت بهزيمة طرف

    أطلقوا دعوى ساذجة مفادها أن “كل حرب تنتهي بالتفاوض لا بالهزيمة”. هذا تجاهل للحقائق التاريخية: فالحروب تنتهي إما بانتصار طرف على آخر أو بفرض تسوية من موقع القوة. حروب العالم القديم، الحروب العالمية الاولى والثانية، وحروب الاستقلال في إفريقيا وآسيا، كلها انتهت بهزيمة واضحة لطرف وانتصار لآخر . بهذا القول، يحاولون إقناع الشعب أن الاستسلام قدر محتوم، بينما الحقيقة أن هزيمة الميليشيا ممكنة وضرورية.

    في المحصلة لم تكن مواقف القحاطة والحربويات منطلقة من حياد ودعوات للسلام كما يدّعون، بل كانت انحيازاً عملياً للمليشيا عبر هذه المغالطات العشر. لقد اختاروا العمالة والانحياز للاجنبي والمليشيا، التضليل والتخاذل، في لحظة كانت البلاد فيها تحتاج الى الموقف الوطني المبني على وضوح الرؤية وصلابة الموقف.

    عادل عبد العاطي

    29 سبتمبر 2025م

    ملاحظة:

    هذا المقال هو إعادة صياغة لأطروحات الرفيق سامي عابدين Sami Abdin نشرها في بوست خاص به.

  • رؤية لسياسة خارجية جديدة تحمي مصالح السودان وتحقق تطلعات شعبه

    مقدمة

    عشية تكوين حكومة كامل ادريس يقف السودان اليوم في مفترق طرق. اذ انه بعد سنوات طويلة من التخبط السياسي، والانقلابات، والتدخلات الخارجية، وحرب داخلية مدمرة بدأت في 15 أبريل 2023، صار لزامًا علينا أن نعيد التفكير في كيف ندير علاقاتنا مع العالم. نحن بحاجة إلى سياسة خارجية جديدة، ذكية، وواضحة، تدافع عن مصالح السودان، وتحمي كرامة شعبه، وتفتح أمامه أبواب التنمية والتقدم.
    لقد تابع كاتب هذه السطور عن قرب كل ما حدث خلال العقود الاخيرة في السودان، في ساحة العلاقات الخارجية. ولقد ابتدرت وشاركت في نقاشات كثيرة مع خبراء وسياسيين وقادة رأي، داخل وخارج السودان، عن الامر، وضمنت وجهة نظري في برنامح سودان المستقبل وفي العديد من المقالات، مما الخصه اليوم في التالي:

    اولا: اهداف السياسة الخارجية السودانية

    لا يمكن بناء سياسة خارجية ( ولا داخلية) ناجحة دون تحديد الأهداف الكلية لهذه السياسة. في السابق كانت أهدافنا اما خاطئة او مبهمة، او كما قال حميدتي ( هدفنا انو ما عندنا هدف). عموما ارى انه في قلب اي صياغة جديدة لسياستنا الخارجية، يجب ان تبرز هذه الاهداف الرئيسية:
    ١- هزيمة تمرد الدعم السريع الحالي، وحماية السودان من أي عدوان خارجي أو تمرد داخلي مدعوم من الخارج مستقبلاً. السودان يجب أن يكون قويًا في الدفاع عن أرضه وشعبه، لكن ليس فقط بالقوة العسكرية، بل بالدبلوماسية والتحركات السياسية المدروسة.
    ٢- استعادة سيادة السودان، وضمان امنه القومي وكرامة مواطنه و أمن موارده. لا يمكن أن نسمح لأي دولة أو جهة بأن تستنزف ثرواتنا ، او تهين مواطنينا، أو تتحكم في قراراتنا.
    ٣- استشراف التنمية عبر بناء شراكات مع دول أخرى على أساس “المصلحة المشتركة”، يعني بمنهج: “شيلني واشيلك “. هذا سيساعدنا على تحقيق التنمية السريعة التي ينتظرها كل سوداني.

    ثانيا: مصادر المعلومات

    لكي تنجح هذه السياسة الجديدة، يجب أن تكون مبنية على معلومات دقيقة وتحليلات صحيحة. لذلك، اقترح تأسيس “مركز السودان للأمن القومي والتحليل الجيوسياسي”، يجمع ممثلين من الجيش، المخابرات، الخارجية، وخبراء مستقلين، ليقدم تقارير عن المخاطر والفرص التي تواجه السودان.
    ايضا من المهم إعادة تنظيم سفاراتنا ومراكزنا البحثية بحيث يكون فيها افراد متخصصون قادرون على جمع المعلومات وتحليلها.

    ثالثاً: القرارات الحاسمة
    ولأننا بحاجة لقرارات واضحة لا تقبل التردد، فإن السياسة الجديدة يجب تشمل اتخاذ وتنفيذ إجراءات حاسمة، من بينها :
    ١- وقف التصريحات العشوائية عن السياسة الخارجية. ان هذه التصريحات تضر ولا تنفع، ويستخدمها الخصوم شر استخدام. ان وزارة الخارجية وحدها هي من يجب ان تتحدث وتصرح باسم السودان في هذا المجال.
    ٢- تقليص العلاقات مع إيران . ان ايران وحلفاءها مستهدفون حالياً، ونحن لا نشكل عمقاً جغرافياً ولا اقتصادياً ولا عقائدياً لايران . ان ايران التي تخلت عن الأسد سريعاً يمكن ان تتخلى عنا بسرعة اكبر. كما ان مصالحنا مع جيراننا الاقربين اقوى. لا مصلحة لنا اطلاقا في ان نصنف كجهة موالية لايران في المنطقة.
    ٣- رفض إقامة قاعدة عسكرية روسية في بورتسودان بل واي قاعدة عسكرية اجنبية في بلادنا. هذا يشكل تخلياً عن سيادتنا، كما يدخلنا في صراعات المحاور الدولية في امر نحن في غني عنه.
    ٤- استمرار الموقف الواضح تجاه الامارات ، بوصفها دولة عدوان. يجب ان تعلم الامارات ان الشعب السوداني لن ينكسر امامها، وان الطريق الوحيد لها لاصلاح علاقاتها مع بلادنا هو وقف دعمها للتمرد، وعدم التدخل في سياساتنا الداخلية، والتعويض العادل عن كل الدمار الذي احدثته بالسودان.

    رابعاً: الشراكات الدولية

    على مستوى الشراكات الاقليمية والدولية فيجب ان تبني على اساس حفظ السيادة والأمن القومي والمصالح المشتركة، وليس على اساس الأيدلوجيات او تحقيق العمولات.
    في هذه اللحظة ارى التركير اقليميا على ترسيخ علاقاتتنا مع دول مثل تركيا، قطر، ومصر والسعودية، وهي دول وقفت موقفاً ايجابياً او محايداً تجاه الحرب البغيضة على السودان. كما يجب أن نعود بقوة للاتحاد الأفريقي، ونتعاون مع دول أفريقية كبرى مثل نيجيريا وجنوب افريقيا والمغرب وغانا وزامبيا والكونغو الخ.
    وفضلا عن التعاون مع الدول والتجمعات والاقتصاديات الكبرى ( الولايات المتحدة، الصين، دول الأتحاد الأوروبي) هناك فرصة كبيرة أيضًا في التعاون مع دول مثل الهند، اليابان، البرازيل، والأرجنتين، اندونيسيا، كوريا الجنوبية، وكلها دول يمكن ان تساهم لبناء السودان وتطويره، ليصبح مركزًا اقتصاديًا وصناعيًا مهمًا في افريقيا.

    خامساً : سياسة التفاوض

    في السياسة ليس هناك اعداء دائمون ولا اصدقاء دائمون، لذلك هناك ضرورة للتفاوض في اغلب الاحيان مع الأطراف المختلفة.
    في هذا الصدد لا يجب ان يرفض السودان الحوار او التفاوض مع اي طرف، بما في ذلك المليشيا او الامارات، ولكن يجب أن يتم التفاوض من موقع قوة، وبسقف مرتفع يحمي مصالحنا، وتكون مطالبنا هي حل المليشيا وتفكيكها ونزع سلاحها وإقرار سيادة الدولة. هنا لا مكان لاي تراجع او مساومات، والشعب الذي دفع الثمن غالياً لمدة عامين، لا يمكن اجباره على عودة المليشيا الارهابية باي شكل من الاشكال للحياة السياسية.

    سادساً: خطوات ضرورية

    لتنفيذ هذه السياسة، اقترح إصدار قرار واضح من مجلس السيادة بأن وزارة الخارجية هي الجهة الوحيدة المسؤولة عن السياسة الخارجية، مع إنشاء مجلس خاص لمتابعة تنفيذ هذه السياسة، يرفع تقارير دورية عن التقدم المحقق. كما يجب أن تراجع ملامح هذه السياسة كل ستة أشهر لتحديثها وتطويرها حسب الظروف.
    كما تحتاج سياستنا الخارجية الجديدة إلى حوار واسع مع كل مؤسسات الدولة، سواء كانت مجلس السيادة، مجلس الوزراء، الجيش، المخابرات، بل والاقتصاديين والخبراء في السياسة والعلاقات الدولية. كما يجب أن يتم التشاو ر حولها مع ممثلي الشعب ومؤسسات المجتمع المدني والمثقفين وصناع الراي. لأن السياسة الخارجية ليست مجالاً محتكراً للحكومة، بل يجب ان يساهم في صياغتها وتنفيذها كل شعب السودان.

    خاتمة

    اؤمن انه بعد عقود من الفشل والتردد والتخبط، فقد حان الوقت لأن نمسك بزمام أمورنا. حان الوقت لأن تكون لنا سياسة خارجية تحمي بلدنا، وتعزز اقتصادنا، وتعيد للسودان مكانته الإقليمية والدولية.
    مع تكوين حكومة جديدة والانتصارات على جبهات القتال يجب أن نتحرك ايضاً في الجبهة الدبلوماسية بثقة وشجاعة وعقلانية، بدون تردد ولا تخبط ولا مساومة على مصالح وطننا الكبرى والغالية.

    عادل عبد العاطي
    ٢٥ مايو ٢٠٢٥م

  • الطفرة الاقتصادية – 2025-2035 : قطاع التعدين

    المقدمة:

    يقع السودان في قلب الدرع العربي النوبي (Arabian-Nubian Shield) الممتد من مصر شمالًا حتى كينيا جنوبًا، ومن السعودية شرقًا حتى الصحراء الكبرى غربًا. تشكّل الدرع بين 870 – 550 مليون سنة، ويُعد من أكبر مناطق القشرة “الفتية” على الأرض (juvenile crust)، غنية بالمعادن النفيسة والصناعية في السعودية والسودان وجنوب السودان والكنغو وإرتريا وإثيوبيا.

    في ضمن هذا الدرع تكونت أهم الأنماط المعدنية في السودان من ذهب وأوردة كوارتزية (orogenic & epithermal gold) وكبريتيدات نحاس وزنك (VHMS) ونحاس رسوبي (sediment-hosted Cu) وبوكسيت وألومنيوم محتمل في ولايات دارفور وجبال النوبة ، فضلاً عن وليثيوم وتنتالوم في بجماتيت بجبال البحر الأحمر وجنوب النيل الأزرق وسيليكا عالية النقاوة في الشمالية ونهر النيل وشمال كردفان.

    ورغم إن السودان يجلس على واحد من أغنى الأقاليم الجيولوجية في العالم ، إلا إن التركيز المفرط على الذهب جعل البلاد تفقد فرصًا ضخمة في تعدين وإنتاج بقية المعادن مثل النحاس، الليثيوم، السيليكا، الكوبالت، الخ وهي معادن استراتيجية للمستقبل.

    السياسات الحالية والقوانين المنظمة:

    يعتمد الإطار القانوني لسياسات التعدين على عدة قوانين ولوائح من بينها قانون الثروة المعدنية والتعدين لعام 2015 (تعديل لقانون 2007) والذي يمنح وزارة المعادن حق الإشراف والتنظيم على القطاع، ويضع تقسيمات: امتياز – استكشاف – تعدين صغير – تعدين تقليدي لعمل الشركات والمناجم والنشاطات المختلفة في هذا القطاع.

    على أساس هذا القانون تم إنشاء الشركة السودانية للمعادن كذراع رقابي مالي/فني للوزارة، بينما يسمح القانون بمشاركة الشركات الوطنية والأجنبية وفق نظام عقود الامتياز، مع رسوم إتاوة (royalty) وضريبة أرباح.

    السياسات الفعلية الحالية تتركز على تعدين الذهب والذي يمثل 80–85% من قيمة الصادرات المعدنية. في داخل هذا الإطار الضيق نجد إن التركيز منصب على التعدين الأهلي (التقليدي) الذي يضم أكثر من مليوني عامل، مع ضعف النشاط والرقابة على المعادن الأخرى (النحاس، الكوبالت، الليثيوم)، وذلك في ظل غياب إستراتيجية متكاملة للمعادن الصناعية، حيث لا توجد خطط قومية لتطوير قطاع النحاس والليثيوم والسيليكا رغم الطلب العالمي. كما أدى ضعف التنسيق بين وزارة المعادن ووزارات أخرى (الطاقة، البيئة، الصناعة، المالية) الى ثغرات عظيمة في هذا المجال.

    الإنتاج الحالي وواقع التصدير :

    كما اسلفنا يشكل الذهب اكبر منتج معدن حاليا ويبلغ الإنتاج السنوي الرسمي ما بين 50 – 90 طن، في ظل وجود قطاع غير رسمي يعتقد انه يمثل حوالي 40–70% من الإنتاج يذهب اغلبه عن طريق التهريب مسببا خسائر في حدود 1-2.5 مليار دولار سنويا للخزينة العامة.

    فيما يتعلق بالاستثمار الأجنبي هناك شركات كبرى عملت في هذا المجال مثل أرياب الفرنسية سابقًا، كما نشطت فيه شركات روسية، تركية، مصرية، محلية). أغلب هذا الاستثمار الأجنبي غير مقنن بشكل واضح.

    المنتج الثاني هو النحاس والزنك حيث تم إنتاج بسيط في مناجم هساي/أرياب كانت تنتج Cu-Zn-Au-Ag منذ الثمانينات (بالتعاون مع شركة فرنسية). تراجع الإنتاج بسبب قلة الاستثمارات وتخلف التكنولوجيا.

    فيمايتعلق بالكوبلت والنيكل هناك مؤشرات جيولوجية مشجعة في جبال البحر الأحمر وجنوب كردفان ولكن لم تبدأ مشروعات صناعية جادة رغم الطلب العالمي. أما الألومنيوم والبوكسيت فهناك مناطق إنتاج محتملة في جبال النوبة ودارفور، غير مستكشفة بالكامل.

    يوجد الليثيوم بكميات مشجعة بجماتيت في البحر الأحمر والنيل الأزرق ولم يُستغل حتى الآن، رغم كونه “معدن المستقبل” للبطاريات. كما توجد احتياطيات ضخمة لمعدن السيليكا في الشمالية ونهر النيل وشمال كردفان (عالية النقاوة تصل 99%). هناك استغلال محدود يذهب للتصدير كخام، مع عدم وجود صناعة زجاج/ألواح شمسية محلية تستخدم هذا المعدن.

    المعوقات والتحديات لقطاع التعدين:

    هناك مجموعة من المعوقات المؤسسية والسياسية، من أهمها عدم الاستقرار السياسي وضعف الإطار القانوني، غياب الحوكمة والفساد في عقود الامتياز، وتهريب الذهب وضعف الرقابة الجمركية.

    أما المعوقات الفنية والتقنية فتشمل محدودية الدراسات الجيولوجية التفصيلية الحديثة (آخر مسح قومي شامل تم في الثمانينات)، وضعف البنية التحتية (طرق، كهرباء، مياه) في مناطق التعدين ونقص المعامل الجيوكيميائية والمتخصصة في المعادن.

    وتضم المعوقات الاقتصادية الاعتماد على تصدير خام بدون قيمة مضافة، وغياب التمويل طويل الأمد للمشاريع الكبرى، والمنافسة غير العادلة بين التعدين التقليدي والشركات المنظمة.

    فضلاً عن ذلك نرصد وجود عدد من المعوقات البيئية والاجتماعية مثل النزاعات المجتمعية حول الأراضي، وغياب التعويضات واستخدام الزئبق والسيانيد في التعدين التقليدي (ملوثات خطيرة).

    الحلول والسياسات المقترحة:

    نظراً للمعوقات الرئيسية نقترح التالي من الحلول والسياسات:

    1. في حيز إصلاح الإطار المؤسسي نقترح دمج وزارات الصناعة والطاقة والتعدين في وزارة واحدة ، وإنشاء هيئة وطنية مستقلة للمعادن الصناعية (غير الذهب)، مهمتها تطوير تعدين النحاس، الزنك، الكوبالت، الليثيوم، السيليكا وتحديث قانون التعدين ليلزم الشركات بالقيمة المضافة (processing & refining) وإعادة هيكلة وتطوير وتقوية الشركة السودانية للموارد المعدنية بالكوادر والتمويل.

    2. في مجال التطوير الفني يجب إطلاق برنامج مسح جيولوجي قومي جديد باستخدام تقنيات الاستشعار عن بعد بالأقمار الصناعية والمسيرات وتقنيات الذكاء الاصطناعي وإقامة مراكز بحث وتدريب مرتبطة بالجامعات (جيولوجيا – هندسة تعدين).

    3. أما في مجال التكامل الصناعي فلا بد من إنشاء مصفاة للذهب في السودان، وأخرى للنحاس والزنك ومشاريع لبطاريات الليثيوم. في هذه المشاريع الثلاثة يمكن عقد شراكات مع قطر/ السعودية ( مصفاة الذهب) والصين/ الهند ( مصنع بطاريات الليثيوم واستراليا/ بولندا في حالة مناجم ومصفاة النحاس، كما تطوير صناعة الزجاج والخلايا الشمسية باستخدام السيليكا ( بالشراكة مع ألمانيا).

    4. في مسألة التمويل والشراكات لا بد من تشجيع صناديق الاستثمار الإفريقية والعربية والدولية للدخول في القطاع، وإنشاء وتفعيل دور كل من صندوق التنمية وإعادة البناء السوداني والبنك السوداني/ الأفريقي للبنية التحتية لتمويل مشاريع التعدين.

    5. فيما يتعلق بقضايا الحوكمة و والشفافية لا بد هنا من الانضمام الكامل لمبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية (EITI) وإشراك المجتمعات المحلية عبر عقود المنفعة المشتركة (Community Benefit Agreements).

    6. لا يزال الزئبق يشكل احد التحديات البيئية الأشد خطرا، لذلك لا بد من حظره تدريجيًا واستبداله بتقنيات صديقة لللبئية و والاستدامة، وإلزام الشركات بخطط إعادة تأهيل الأراضي المستخدمة في التعدين ومراقبة جودة المياه والهواء حول مواقع التعدين.

    خاتمة :

    بتنفيذ حزمة سياسات و وإجراءات تهدف إلى الإصلاح المؤسسي بما في ذلك أعادة الهيكلة للمؤسسات المشرفة على التعدين، و إصلاح القوانين، وجذب الاستثمارات عن طريق سياسة استثمارية شرسة، وتبني نهج شفاف ومستدام، يمكن لقطاع التعدين أن يتحول من نشاط تقليدي محدود القيمة إلى قاطرة تنمية صناعية وتكنولوجية خلال العقد القادم.

    22 اغسطس 2025

    ملاحظة: هناك دراسة تفصيلية من 50 صفحة حول تطوير قطاع التعدين والصناعة المرتبطة بالتعدين بالسودان، أعددتها لصالح المؤسسة الأوروبية – الافريقية ومقرها وارسو، موجودة على هذا الرابط

    https://archive.org/details/20250822_20250822_2241

  • ما حقيقة الـ٢٠٠ جندي المُبادين في ١٩ يوليو ؟

    مقدمة:

    في أعقاب انقلاب ١٩ يوليو ١٩٧١، أصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني تقريراً عقب دورة انعقادها في شهري نوفمبر – ديسمبر ١٩٧١، زعمت فيه أن نظام جعفر نميري قد أباد ٢٠٠ جندي كانوا عُزلاً من السلاح، بعد سقوط ذلك الانقلاب.

    هذا الزعم نُشر في الكتاب الذي صدر عام ١٩٧٥، وشمل تقارير عدة دورات للجنة المركزية للحزب الشيوعي في أعوام ١٩٧١، ١٩٧٢، ١٩٧٣، ١٩٧٤، والذي سُمّي لاحقاً بكتاب الدورات. تحديداً جاء هذا الزعم في صفحة ١٦ من ذلك الكتاب، حيث قالت اللجنة المركزية التالي:

    (إن استغلال حادث بيت الضيافة، وإثارة المشاعر بموكب الدفن، يؤكد أن الأمر كله نسخة من حادثة معهد المعلمين العالي عام 1965، لإثارة موجة العداء للشيوعية لتبرير التصفية البدنية للحزب الشيوعي والحركة الثورية، واستخدمت السلطة حادثة بيت الضيافة لتغطية إبادتها لمائتين من الجنود دون محاكمة، وهم عُزّل من السلاح، وللتستر على الذين ارتكبوا الجريمة، وتبرير مجازرها والإعدامات الوحشية).¹

    بعدها، وطوال عقود كاملة، وفيما عدا ما ورد في تلك الدورة، لم تشر قيادة الحزب الشيوعي لهؤلاء الجنود المائتين إطلاقاً، ولم توثّق أسماءهم، ولم تذكر حيثيات إبادتهم، وبدوا وكأنهم سقطوا من أضابير التاريخ في غياهب العدم.

    نقاش قبل عشرين عاماً:

    لهذا فتحت الموضوع للنقاش في عام ٢٠٠٤، حيث كتبت في منبر “سودانيز أونلاين”، في معرض نقاش لمقال للأستاذ عثمان محمد صالح عن عبد الخالق محجوب، أشهيد هو أم قربان، التالي:

    (كان الشهيد ( عبد المجيد) شكاك مسؤولاً عن تنظيم الجنود الشيوعيين في الجيش السوداني؛ هذا التنظيم الذي زعمت وثائق الحزب الشيوعي أنه قرر ونفّذ انقلاب 19 يوليو مع الضباط؛ كما قالوا في وثيقة سبتمبر – نوفمبر 1971؛ وفي غيرها من الوثائق؛ إن 19 يوليو قام بها الضباط والجنود الشيوعيون والديمقراطيون؛ وتحديداً تنظيم الضباط الأحرار والجنود الديمقراطيين. (اقرأ: التنظيم العسكري للحزب الشيوعي وسط الضباط والجنود).

    في وثيقة “تقييم 19 يوليو”، والتي صدرت بعد أكثر من ربع قرن، نجد أن لا الشهيد شكاك ولا تنظيم الجنود الديمقراطيين أو الجنود الشيوعيين قد شاركوا في التخطيط للانقلاب؛ بل علموا به بعد قيامه؛ ثم طُلب منهم دعمه؛ وكان الدعم بإصدار بيان بذلك؛ وتوزيع بيانات الحزب وسط الجنود؛ الأمر الذي كشف عدداً غير بسيط من هؤلاء الجنود الشيوعيين.

    الرائد عبد العظيم عوض سرور، في شهادته عن تقييم 19 يوليو، يقول إنه لا يعرف شيئاً عن ذلك التنظيم؛ وإنه لو كان موجوداً وكان الضباط على علم به؛ لجرى تغيير نوعي في تلك الأيام. إن هذا يثبت أن هذا التنظيم كان في يد قيادة الحزب الشيوعي؛ وأن قرار الدعم من هذا التنظيم والشخص المسؤول عنه أو المشرف عليه – الشهيد شكاك – قد جاء تحت طلب مباشر، وربما قرار، من قبل قيادة الحزب المتنفذة؛ طالما أن الضباط لم يكونوا على معرفة بوجوده حتى.

    وثيقة دورة سبتمبر – نوفمبر 1971 تتحدث عن 200 جندي قُتلوا ضمن شهداء 19 يوليو؛ ثم يختفي الحديث عن هؤلاء وعن هذا الرقم بعد ذلك، ولا يُذكر إطلاقاً؛ الأمر الذي أشرنا إليه في مقالنا عن تشويه الحقائق وتزوير التاريخ في وثائق الحزب الشيوعي السوداني.

    مما لا ريب فيه أن بعض الجنود ممن وزعوا بيانات التأييد هذه قد انكشفوا، وقد قُتلوا، ولكن قيادة الحزب الأمدرمانية الصفوية لم تكلف نفسها عناء تحقيق سيرتهم وذكر أسمائهم. ومما لا ريب فيه أن عددهم لا يرقى إلى المائتين، وقد كانت هذه من أكاذيب الحزب الشيوعي، والتي لا يجد في نفسه الجرأة لتصحيحها على رؤوس الأشهاد، وإنما يتم التحايل عليها بالصمت وجمع الوثائق القديمة من الفروع بدعوى الأرشفة، في ممارسة ستالينية مشهودة بإعدام الوثائق وتزويرها وتحريفها.

    الشهيد شكاك، بوصفه كان مسؤولاً عن هؤلاء الرجال، وبوصفه هو الذي وافق على قرار دعمهم للانقلاب رغم أنه لم يُشاور فيه ولم يكن راضياً عنه، لم يكن له إلا أن يتعذب بتأنيب الضمير، وأن يغرق في السوداوية والإحساس بالمسؤولية عن موتهم. ولا ريب عندي أن هذه كانت واحدة من الأسباب التي دفعته إلى الانتحار في محاولة للتكفير عن ذنب لم يكن ذنبه، وإنما وُرّط فيه، بينما يظل حتى الآن ممن وصفتهم بالعصبة الشيطانية، ينامون بهناء، ويدجلون على البشر، ويتاجرون باسم الشهداء.)2

    في ذلك النقاش لم يرد عليّ أي من كوادر الحزب الشيوعي المشاركين فيه، بمن فيهم عضو اللجنة المركزية لذلك الحزب صدقي كبلو. كذلك شارك في النقاش الراحل العظيم الأستاذ الخاتم عدلان، عضو سكرتارية اللجنة المركزية للحزب سابقاً، وهو أيضاً لم يتطرق لهذه النقطة، رغم أنه رد عليّ في وقت لاحق عن ملابسات انتحار الراحل شكاك.

    توثيق السكرتير الثقافي للحزب الشيوعي للواقعة:

    كان الشخص الثاني الذي أشار لهذه القضية، حسب علمي، بعد تلك الوثيقة الوحيدة اليتيمة، هو تاج السر عثمان بابو، الشهير بـ”السر بابو”، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني والمسؤول الثقافي للحزب، وهو الذي يعتبر نفسه المؤرخ الرسمي للحزب الشيوعي حالياً.

    أورد الرجل في مقال له بعنوان: (الذكرى ٥٤ لانقلاب ١٩ يوليو ١٩٧١) نشره موقع “سودانايل” بتاريخ ١٨ يوليو ٢٠٢٥، الفقرة المذكورة من تقرير اللجنة المركزية لدورتها في نوفمبر – ديسمبر ١٩٧١، عن الجنود المائتين، دون أن ينفي المعلومة أو يشكك فيها، بل يظهر أنه يتعامل معها كحقيقة مؤكدة.³

    الأسئلة الحرجة:

    في ظل استمرار طرح هذه المعلومة، تطرح بعض الأسئلة الحرجة نفسها، كالتالي:

    من هم هؤلاء الجنود؟ ماذا كانت أسماؤهم؟ ما هي ملابسات إبادتهم التي تم ذكرها في مرجعين لتاريخ الحزب الشيوعي و١٩ يوليو (الدورة والمقال)؟

    لماذا توقف الحزب الشيوعي عن الإشارة لهؤلاء الجنود طوال ٥٤ عاماً؟ لماذا لم يُحقق سيرتهم؟ ولماذا لم يذكر أسماءهم كشهداء له أو كشهداء للديمقراطية أو السيادة الوطنية، كما كان يصف الضباط المعروفين بالاسم من قادة ١٩ يوليو؟ وكما وثّق ومجّد الجندي أحمد إبراهيم الذي يصفه الحزب بالشهيد، وهو الجندي الوحيد الذي تم إعدامه بعد ذلك الانقلاب بتهمة تورطه في اغتيال ضباط بيت الضيافة؟

    كيف نفسر نفي الرائد عبد العظيم عوض سرور معرفته بوجود تنظيم للجنود بهذا الحجم، وهو من المشاركين الفاعلين في الانقلاب؟ 4

    وكيف نفسر أنه ليس هناك أحد من المؤرخين الذين وثقوا لانقلاب ١٩ يوليو (فؤاد مطر، محمد سعيد القدال، عبد الله علي إبراهيم، عبد الماجد بوب، حسن الجزولي، عبد الله إبراهيم الصافي، عبد القادر الرفاعي، كمال إدريس… إلخ)، أو من الشهود المشاركين في الأحداث الذين أدلوا بشهادات صوتية (سعاد إبراهيم أحمد، صلاح بشير، أحمد محمد الهلالي، محمد أحمد الريح، يعقوب إسماعيل، عمر أحمد وقيع الله، أبو بكر عبد الغفار، علي شمو، عبد الله إبراهيم الصافي، عثمان الكودة… إلخ) قد ذكر واقعة إبادة ٢٠٠ جندي على الإطلاق، كشهداء أو ضحايا في ذلك الانقلاب؟

    بل كيف نفسر غياب الإشارة لهؤلاء الجنود المائتين الذين تمت إبادتهم، حتى في الوثيقة الرسمية المفصلة التي أصدرتها سكرتارية نفس اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، في عام ١٩٩٦، بعنوان (تقييم ١٩ يوليو)؟

    تصحيح وخاتمة:

    أحب في هذه الخاتمة أن أصحح المعلومة أو الاستنتاج الذي ذكرته في عام ٢٠٠٤، والذي قلت فيه إنه لا ريب أن (بعض الجنود ممن وزعوا بيانات التأييد هذه قد انكشفوا، وقد قُتلوا، ولكن قيادة الحزب الأمدرمانية الصفوية لم تكلف نفسها عناء تحقيق سيرتهم وذكر أسمائهم). حيث يتضح لي اليوم، وبعد صدور عشرات الكتب والمقالات والتسجيلات عن انقلاب ١٩ يوليو، أنه ليس هناك أي جنود قد أُبيدوا أو قُتلوا، سواء كان الحديث عن مائتين أو عشرين أو اثنين.

    وفي ظل ما ذُكر من تساؤلات أعلاه، نرمي الكرة في ملعب قيادة الحزب الشيوعي، لتوضح إن كان ما أتى في تقرير اللجنة المركزية عام ١٩٧١ حقيقة، وهي حينها ملزمة بأن تذكر أسماء أولئك الجنود وملابسات إبادتهم، حتى نحفظ لهم مكانهم في التاريخ. أو أنها اختلقت الأمر كله، وألقت علينا فرية ثقيلة، وعليها حينها أن تعتذر للشعب السوداني على تضليله بالمعلومات الكاذبة والتخرصات التاريخية.

    المراجع:

    ١- أعمال دورة اللجنة المركزية سبتمبر – نوفمبر 1971 – نُشرت ضمن كتاب دورات اللجنة المركزية لدورات سبتمبر – نوفمبر 1971، يوليو 1972، مايو 1973، يناير 1974، والذي صدر عام ١٩٧٥.

    ٢- عادل عبد العاطي: نقاش في “سودانيز أونلاين”

    https://sudaneseonline.com/…/%d8%b9%d9%80%d8%a8%d8%af…

    ٣- تاج السر عثمان بابو: الذكرى ٥٤ لانقلاب ١٩ يوليو ١٩٧١

    https://sudanile.com/%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9…

    ٤- الرائد (م) عبد العظيم عوض سرور: حركة 19 يوليو 1971: التحضير – التنفيذ – الهزيمة. صفحات ١٥٠–١٥٢.

    https://archive.org/details/19-1971-.

  • إنتخاب إيمانويل ماكرون والقضية السودانية

    تم يوم أمس تغيير تاريخي في فرنسا حيث تم إنتخاب أيمانويل ماكرون بأغلبية حوالي 66 % لصالحه مقابل 34% لصالح مرشحة اليمين المتطرف مارلين لوبان. ورغم إن كل إستطلاعات الرأي كانت توضح تفوق ماكرون الواضح وإمكانية حصوله على أكثر من 60% من الأصوات في الجولة الثانية من الإنتخابات ، إلا إن العالم كان ينظر بقلق وترقب خوفاً من امكانية إنتصار مرشحة اليمين المتطرف بما تطرحه من برنامج معادي للاجانب ولاوروبا وللسوق الحر والتجارة العالمية ولعلاقاتها المشبوهة بروسيا وغيرها من الظواهر المقلقة.

    وكان من دواعي القلق عدم معرفة كيف سيصوت ناخبو الأحزاب الفرنسية الأخرى التي سقط مرشحوها في الدورة الأولى للإنتخابات. فرغم تأكيد مرشح حزب الجمهوريين اليميني فرانسوا فيلون ( حصل على خمس الأصوات في الدورة الأولى) تأييده لماكرون إلا أن استطلاعات الرأي أوضحت إن ثلث ناخبي ذلك الحزب متعاطفة مع لوبان .  كما إن المرشح اليساري المتطرف جان-لوك ميلينشون أكد مرارا أنه لن يصوت لأي من المرشحين، ودعا ناخبيه للتصويت حسب ما يمليه عليه ضميره ، الأمر الذي يفسر نسبة  التصويت العالي باصوات غير صالحة في الدورة الثانية للانتخابات. 

    فوز ماكرون والقضايا الفرنسية:

    شكلت الانتخابات الرئاسية الفرنسية الحالية هزة ارضية لأغلب الاحزاب التقليدية الفرنسية ، حيث لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية يفشل ممثلو الاحزاب الرئيسية (الجمهوريون والحزب الاشتراكي ) في إيصال مرشحيهم للدورة الثانية للانتخابات. كما هي المرة الثانية التي يفلح فيها حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف في ايصال مرشحه للدورة الثانية ( كان جان ماري لوبان قد وصل في 2002 للجولة الثانية) . وأيضاً هي المرة الاولى التي يصل فيها مرشح مستقل وليبرالي لحكم فرنسا ، خصوصا اذا علمنا ضعف التيار الليبرالي في فرنسا وقوة التيارات اليسارية واليمينية هناك، ناهيك ‘ن عمر ماكرون الشاب (أقل من 39 عاما). 

    لقد كانت نتيجة الانتخابات صفعة قوية للنخب السياسية الفرنسية التقليدية والعجوز، والتي سجلت انهيارها التام بوصول شعبية الرئيس الاشتراكي هولاند الى اقل من 10% في الوقت الذي حصل فيه مرشح الحزب الاشتراكي هامون على 6% فقط وأتى خامسا في السباق، بينما اضطر رئيس الجمهوريين ساركوزي غير المحبوب لعدم خوض السباق الإنتخابي وفشل صديقه السياسي المخضرم فيلون في الدخول للدورة الثانية حيث كانت تحاصره اتهامات الفساد المالي والتلاعب بالاموال العامة. لقد كانت النتيجة الثالثة لفيلون في تلك الظروف نتيجة مشرفة حيث كان مرشح اليسار المتطرف ميلانشون يلحق به ويكاد يتقدم عليه بعد ان كان فيلون يظن في بداية الحملة انه الرئيس القادم لفرنسا.

    هذا سيعني إعادة ترتيب للحركة السياسية الفرنسية عشية الإنتخابات البرلمانية القادمة  وبروز نجم قوى جديدة من بينها حركة ماكرون نفسه ” إلى الأمام” والتي تتخذ طابعا ليبرالياً إجتماعياً والتي يمكن أن تحصل على حوالي 25% من اصوات الناخبين وإنحسار دجور اليسار التقليدي ” الحزب الإشتراكي” مقابل اليسار المتطرف لميلانشون وحركته ” فرنسا المتمردة” فوقا عن الموقع القوي لحزب الجبهة الوطنية والذي يمكن أن يحصل على 25%-30% من الأصوات ، فيما سيحصل الجمهوريون على حوالي 20% من الأصوات، مما يعني إن ماكرون قد يجد نفسه في موقع صعب لعدم إعتماده على أغلبية برلمانية واضحة تدعمه وتدعم برنامجه الإصلاحي. 

    عموما فإن الانتخابات  اثبتت توق الشعب الفرنسي للتغيير والحاجة الى برامج واضحة وليس سياسة التلتيق والتلفيق التي دأبت عليها الاحزاب الفرنسية التقليدية وقياداتها. فما يميز كل من ماركون ولوبان هو وضوح برامجهما ( على اختلافهما). فبرنامج ماركون هو برنامج ليبرالي اصلاحي واضح على المستوى الاقتصادي ومؤيد بقوة للاندماج الاوروبي كما ان موقفه من الاجانب والمهاجرين ايجابي وكذلك موقفه العلماني واضح ( وان كان ليس متطرفا) . بينما برنامج لوبان واضح في عدائه للاجانب والاتحاد الاوروبي وهو برنامج شعبوي على المستوى الاقتصادي. ايضا كان برنامج مرشح اليسار المتطرف ميلانشون واضحا في اطروحاته اليسارية المتطرفة وعدائه للسوق الحر والاتحاد الاوروبي، بينما كان مرشح المحافظين الكاثوليكين المتطرفين ديبونت – ايغنان واضحا في اطروحاته المحافظة مما وفر له نتيجة قريبة من نتيجة مرشح الحزب الاشتراكي رغم ان حركته توجد على هامش الحياة السياسية الفرنسية. 

    في النهاية تقف تحديات كبيرة أمام ماكرون ليس أقلها الحصول على أغلبية برلمانية مريحة وانما تحرير سوق العمل وتخفيض تكلفته في فرنسا التي تسيطر عليها النقابات والتي يتوقع ان تشن حرباً على ماكرون من ايامه الاولى ، وكذلك اعادة المنافسة للاقتصاد الفرنسي وتخليصه من البيروقراطية وتدخل الدولة حيث يعتبر الاقتصاد الفرنسي أقل الإقتصاديات حرية ومرونة في أوروبا. كما على ماكرون واجب محاربة الإرهاب داخل فرنسا نفسها وإعادة اللحمة للأمة الفرنسية واستيعاب المهاجرين بشكل أفضل، بعد أن اعلن بشكل واضح ترحيبه بهم وحاجة فرنسا الى المهاجرين. 

    الانتخابات الفرنسية والوضع الاوروبي والعالمي:

    على المستوى الأوروبي والغربي فقد شكلت الإنتخابات الفرنسية حاجزاً وسداً أمام مسيرة اليمين المتطرف ببرنامجه الشعبوي والعنصري الغامض نحو السلطة في القارة العجوز. وإذا كان فوز دونالد ترامب في الولايات المتحدة وتصويت البريطانيين للإنسحاب من الإتحاد الأوروبي (البريكست) قد مد اشرعة اليمين الاوروبي المتطرف بالهواء فإنه قد تم ايقافه في هولندا قبل بضعة أشهر بفوز الليبراليين هناك ، إلا أن فرنسا قد شكلت الإجابة الواضحة على أطروحات اليمين المتطرف بإعتيار إن حزب الجبهة الوطنية هو أقوى حزب لليمين المتطرف في اوروبا وزعيمته لوبان هي الأكثر وضوحا وشهرة، لذلك يشكل فوز ماكرون صفعة قوية لليمين المتطرف في عموم أوروبا ويوضح إن قضيتي ترامب والبريكست هما امران مختلفان ولا علاقة لهما بالتقاليد الاوروبية. 

    وتبدى ترحيب الاتحاد الاوروبي بفوز ماكرون في التهنئة الواضحة التي قدمتها له انجيلا مركل واعتبارها فوزه فوزا للاتحاد الاوروبي والحلف الالماني الفرنسي داخل الإتحاد. ويتوقع أن يلعب ماكرون دورا كبيرا في الحفاظ على الاتحاد وتسريع الإندماج الاوروبي رغما عن بعض الدول التي يحكمها اليمين المحافظ حاليا مثل بولندا والمجر ، وربما يسير في اتجاه ما يسمى بأوروبا السرعات المتعددة وهو مزيد من الإندماج لاوروبا الغربية ومنطقة اليورو في مقابل اهمال للأعضاء الجدد في شرق اوروبا ذوي الميول المحافظة. 

    ويشكل فوز ماكرون هزيمة قوية لروسيا والتي وقفت واعلنت رسميا دعمها لمرشحة اليمين المتطرف بل تورط الهاكرز الروس في اقتحام ايميلات أيمانويل ماكرون. وتتخوف روسيا من سياسة ماكرون المتصلبة تجاهها وعمله على تقوية الإتحاد الأوروبي التي تعمل موسكو على نسفه والانفراد بالدول الأوروبية كل على حدة ودعمه لاستمرار فرنسا في حلف الناتو الذي تعده روسيا اكبر اعدائها ووعدت لوبان بالخروج منه. إن انتصار ماكرون هو أول تحد اوروبي لموسكو بعد سنوات من الانبطاح والعجز الأوروبي أمامها ومن سياسة الانكسار تجاه روسيا والتي كانت تقودها باريس الإشتراكية وروما والى درجة كبيرة برلين. ولا ننسى ان اكثر القوى الاوروبية تشددا تجاه روسيا هم الليبراليون  الذي يتفق ماكرون تماما مع اطروحاتهم الاوروبية والعالمية. 

    كما يتوقع أن يلعب ماكرون دوراً عالمياً أكبر وذلك بتشديده على الحرب ضد الإرهاب وفي ذلك يمكن ان نتوقع أنخراطا أكبر لفرنسا في محاربة تنظيم “الدولة الاسلامية”  وغيره من التنظيمات المتطرفة في سوريا والعراق وشمال أفريقيا ومنطقة الساحل، كما يتوقع أن تعود فرنسا بقوة للعب دورها في افريقيا خصوصا بعد ان تخلصه من العقد والأوهام الاستعمارية وتبنيه على التعاون الدولي والقيم الكونية، وهو ما فعله ماكرون بشجاعة حين اعترف في الجزائر إن احتلال بلاده لها كان جريمة كبرى في حق الإنسانية. ويعزز عودة الدور الفرنسي سياسة ترامب الانعزالية وبعده بشكل عام عن القضايا الأفريقية أو جهله بها. 

    إنتخاب إيمانويل ماكرون والقضية السودانية:

    لا تشكل فرنسا الشريك السياسي والإقتصادي الأول للسودان، لكنها واحدة من أهم دول اوروبا وخصوصا بعد الانسحاب البريطاني ، ولذلك سيكون لها دور كبير في صياغة سياسات الإتحاد الأوروبي. كما إن علاقتها بالسودان وأهتمامها بقضاياه مرشحة للتطور في ظل إنفتاحها الأفريقي المرتقب. إن فوز ماكرون المتمسك بحقوق الإنسان وصاحب الموقف الصلب ضد الديكتاتوريات سيكون ذو مصلحة كبيرة لشعب السودان، إذا أحسنت المعارضة السودانية التعامل معه. 

    كما إن فوز ماكرون يقدم نموذجا جيدا لشعوب السودان بامكانية ظهور بديل واضح عن النظام الحالي والحركة السياسية السودانية التقليدية، فقبل عام أو قل قبل ستة اشهر لم يكن احد يتوقع ان يصعد ماكرون وهو مرشح وسطي مستقل للدورة الثانية من الانتخابات وها هو قد أصبح اول رئيس خارج دائرة اليمين واليسار للدولة الفرنسية.

    انتخاب ماكرون  وغيره يعبر عن انحسار عهد الاحزاب التقليدية التي تعتمد على الايدولوجيات والشعارات والاستقطابات وبدء زمن القيادات الشابة التي تعتمد على البرامج والتواصل المباشر مع الجماهير والوضوح والمبدئية في الطرح، فهل نحظي بذلك في عام 2020م ؟ إعتقد ذلك واتمنى لشعب السودان ولنفسي مثل هذا الإنتصار الكبير وسنعمل على ذلك أطراف الليل وآناء النهار. 

  • معركة الانتخابات و شرعية النظام وآليات التغيير

    سؤال الشرعية :
    بعد إعلان ترشحي للإنتخابات الرئاسية السودانية لعام 2020م تسائل الكثيرون ان كانت المشاركة في المعركة الإنتخابية تعطي شرعية للنظام القائم وحكم الحزب الواحد الفاشي والفاشل ولا تحقق عكس الغرض المطلوب منها. اقول ان النظام الحاكم في السودان  لا يحتاج الى شرعية فهو يحكم بقوة الامر الواقع وبضعف وتخبط معارضيه وعدم وجود الخطط الاستراتيجية والاليات والادوات الواضحة التي تعمل على هزيمته واستبداله بنظام دستوري رشيد. 
    واذا كان هناك من اعطى الشرعية للنظام  الحاكم فهي الاحزاب والحركات التي حاورته واشتركت في السلطة معه : الحركة الشعبية التي كانت شريكة له في الاعوام ٢٠٠٥-٢٠١١ ، والتجمع الوطني الديمقراطي الذي صالحه في جده والقاهرة ودخل اعضائه البرلمان والحكومة (كان الفريق عبد الرحمن سعيد ممثل التجمع في الحكومة)، وحزب الامة الذي صالحه في جيبوتي ويدعم قياداته من مبارك لعبد الرحمن الصادق النظام ويعملوا فيه، وحركات دارفور التي فاوضته في ابوجا والقاهرة والدوحة الخ ، كما اعطته الشرعية القوى الدولية التي اعطته مقعد السودان في الامم المتحدة والقوى الاقليمية التي تسنده ويسندها.

    (المزيد…)

  • برنامج تطوير الزراعة بشرق السودان

    :: سودان المستقبل ::
    البرنامج الزراعي
    1- برنامج تطوير الزراعة بشرق السودان
    مقدمة :
    تملك منطقة شرق السودان وخصوصا ولايتي القضارف وكسلا ولدرجة أقل البحر الأحمر امكانيات زراعية هائلة يمكن ان تساهم في التنمية الزراعية الحديثة للسودان وتحقيق الأمن الغذائي. وتزخر المنطقة ببعض المشاريع الزراعية القائمة حالياً ولكنها تعاني من مشاكل جمة مثل مشروع الرهد ومشروع خشم القربة ؛ او بعض المشاريع في طور التطوير مثل مشروع دلتا القاش ومشروع دلتا طوكر ؛ والتي تسقي في اغلبها بالري الانسيابي ؛ أو مشاريع زراعية خاصة ونشاط زراعي غير منظم وذلك في ولاية القضارف وفي منطقة المفازة / الحواتة .
    وتتميز المنطقة بانتاج كبير للسمسم والذرة في ولاية القضارف مما يحعلها الأكثر انتاجا للذرة مثلا بعد الولايات المتحدة والصين ؛ ولكنها غير مرتبطة بالأسواق العالمية. كما تعاني المشاريع القائمة من الإهمال وضعف مدخلات الإنتاج وانعدام الخدمات الزراعية والبيطرية نتيجة للإهمال الحكومي مما جعل مشروعي الرهد وخشم القربة في حالة أشبه بالانهيار . كما تتوفر امكانيات واعدة لتنظيم مشاريع دلتا القاش ودلتا طوكر وانشاء مشاريع منظمة جديدة بما لا يقل في مجموعها عن مليوني فدان. (المزيد…)

  • رسالة مفتوحة الى الرئيس دونالد ترامب

    السيد / دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الامريكية ،
    البيت الابيض، واشنطون دي سي ، الولايات المتحدة
    في البداية أحب أن أهنئك ببدء عملك كرئيس للولايات المتحدة الامريكية ، وهي المهمة التي اولاك لها الشعب الأمريكي في إنتخابات حرة . ورغم إنك لم تكن خياري المفضل سعادة الرئيس ضمن قائمة المترشحين لهذا المنصب بسبب ما كنت تعلنه في خطابك الإنتخابي ؛ إلا إن حكم الشعوب واجب النفاذ والإحترام.
    ولقد حسبت وغيري يا سيادة الرئيس إنك بعد إنتهاء الحملة الإنتخابية وفوزك بالرئاسة وتوليك مقاليد الحكم ستنهج نهجا ايجابيا وستترك شعارات الحملة الانتخابية تنتهي مع الحملة الانتخابية ، إلا إن قرارك التنفيذي بتصعيب وتعطيل ومنع مواطني ٧ دول من بينها بلدي السودان من دخول الولايات المتحدة قد أتى مخيبا للآمال ومحبطا ومفتقرا للحكمة السياسية والنظرة الإستراتيجية التي يجب أن يتمتع بها قائد دولة كبيرة وعظمى مثل الولايات المتحدة.
  • أزمة القيادة الرشيدة وضرورتها

    لا يفتقد السودان شيئاً في الوقت الحاضر أكثر من افتقاده القيادة الرشيدة. لقد مضي حين من الدهر على السودانيين وهم يتلفتون بحثا عن قيادات مؤسسية ذات وعي وابصار ومصداقية تطرح لهم برامجا عملية وواقعية وآفاقاً وطرقاً واضحة وسلمية للخروج من دوائر الحرب والتنازع والتخلف والفقر والتسلط الى رحاب السلام والأمن الإجتماعي والتقدم والرخاء والحرية .


    لقد مرَ علينا في السودان عدد من القيادات الرشيدة : رجال ونساء ذوي رؤية ثاقبة وذوي عمود فقري اخلاقي متين ، لم تبدلهم الأيام ولم يبيعوا او يبتاعوا في سوق السياسة العطن. ولكن اغلبهم تخطفته يد الموت قبل الأوان او تأمر عليه الآخرون من تجار السياسة والدين. أذكر من هؤلاء الشهداء علي عبد اللطيف وعبيد حاج الأمين. قاد هذان البطلان ثورة 1924 وتميزا بفكر سياسي ثاقب سبق زمنهما ؛ وشجاعة ومصداقية اخلاقية لا مثيل لها. ولكن يد القمع كانت غليظة عليهما؛ فتم تسميم عبيد حاج الأمين في السجن؛ بينما قضى علي عبد اللطيف ال24 عاما الأخيرة من حياته في السجون والمعتقلات دون ذنب جناه غير حب الوطن ومبغاة تقدمه ونهضته وحريته.
    لقد توزعت قياداتنا السياسية الاخرى على مختلف المشاريع الفاشلة والمضرة بشعوب السودان. فمن جهة كانت هناك القيادات الطائفية التي مزقت وحدة شعوب السودان بالخلاف الطائفي والديني؛ والتي كان افقها السياسي ولا زال ضيقا لاقصى درجات الضيق ؛ تبحث في نشاطها عن مصالحها الخاصة والأسرية، وتبيع حيوات وآمال وتضحيات الناس بأبخس الأثمان. من الجهة الاخرى برزت زعامات يمكن ان تكون دوافعها نبيلة ؛ ولكنها تعاطت العقائدية وضيق الايدلوجيات الشمولية من شيوعية واسلاموية وبعثية وناصرية الخ فادخلت بلادنا في جحر الضب. نظمت هذه الزعامات الانقلابات ونشرت الفيروسات الفكرية ومارست الجرائم وافسدت الحياة السياسية وادخلت شعوب السودان في تجارب مرة وقاسية ؛ ليس آخرها تجربة نظام الانقاذ الفاشلة والفاشية؛ والتي اذاقت بلادنا وشعوبنا العذاب
    كما ظهرت قيادات كان يمكن لها ان تقود التغيير بما تميزت به من تأهيل علمي ومن ظروف مؤاتية ؛ ولكنها اختارات الوسائل الخطأ او الطريق الخاطيء في النضال. من بين هؤلاء الراحل جون قرنق دي مبيور ؛ والذي رغم انه قدم رؤية صائبة في عمومها لمعالجة المشكل السوداني؛ الا ان حمله للسلاح وانتهاجه طريق البندقية قد كلف شعوب السودان وفي اولها شعوب جنوب السودان ثمنا باهظا تمثل في ملايين القتلى والجرحي والمعوقين والمفقودين. لقد رحل جون قرنق سريعا وهو في اوج العطاء؛ ولكن متابعة الحال في تنظيمه وفي الدولة التي نشأت على تراثه ؛ توضح ان الافكار السليمة العامة لن يكتب لها النجاح اذا لم تكن في اطار مؤسسة ديمقراطية وجماهيرية ناجحة؛ تحميها من الانحراف وتبعد بها عن ان تتحول الى النقيض.
    في هذا الوقت كان العالم يتقدم بينما نحن نرجع للخلف. ان دولا ماثلتنا في الحجم والظروف ابان استقلالنا قد خرجت لرحاب التقدم والرخاء الواسعة اليوم؛ بفضل حكمة قادتها وبعد نظرهم ورفقهم على شعوبهم. كانت كوريا الجنوبية في العام 1956 في نفس الحال الاقتصادي والاجتماعي مع السودان وقتها؛ فأين هي اليوم وأين نحن اليوم ؟ كما كانت اغلب دول امريكا الجنوبية تماثلنا الحال عند الاستقلال؛ وأغلبها اليوم في مرحلة متقدمة من التطور بينما نظل في آخر قائمة الدول الفاشلة. بل ان دولا أصغر منا لا تملك شيئا من الموارد مثل سنغافورة وكوستاريكا قد بدأت مسيرتها بعدنا بموارد أقل بكثير ؛ واليوم هي تقود العالم وتمثل نموذجا يحتذي به في التطور الاقتصادي والامن الاجتماعي والاستقرار السياسي ؛ فأين نحن منهم وأين هم منا ؟
    كان كل هذا لأن اولئك “القادة” الذين تسلطوا على السودان قد افتقدوا المنهج العلمي السليم ولم يكن لهم “أصالة ” فكرية كما قال الشهيد محمود محمد طه. لقد قنع هؤلاء الرجال بالفتات المعرفي وتراخوا تحت وطأة الكسل الذهني والتخلف الاجتماعي؛ حتى اصبحوا نموذجا سلبيا ومكونا اضافيا لمشاكل المجتمع السوداني لا قادة له . بانعدام المنهج الفكري وبالبعد عن قضايا الناس وباستسهال الصعوبات وبالوقوع تحت أسر الايدلوجيات الفقيرة وبانعدام الثورة الفكرية السلمية وبالذهول عن واقع العصر والعلم والعالم أغرق هؤلاء السودان السودانيين في مستنقعات التخلف الآسنة ولا يزالون.
    لقد كان حكم الانقاذ تلخيصا كثيفا لكل سلبيات السودان القديم. ان حاضر السودان لا يختلف عن ماضيه الا في شدة اغتراب السلطة عن المواطن وفي زيادة وتائر العنف المجتمعي وفي اشتداد بؤس الناس وموتهم اليومي بسبب الحروب والمرض والجوع . إن الحال يغني عن المقال وكلما تأملنا فيما يجري وارجعنا البصر كرتين إتضح لنا ان السبب الرئيس لكل مشاكل السودان هو انعدام القيادة الرشيدة التي تقود الناس من ضيق التخلف والوهم الى رحاب الرخاء والعلم.
    اليوم نقول إن المعركة الأساسية ليست هي معركة الأحزاب او الايدلوجيات وانما معركة البرامج. اليوم لا نعول على الأسماء اللامعة ولا على الحسب والنسب الطائفي ولا الولاء الديني وإنما على الكفاءة العلمية والتجربة الحياتية والقدرة على التعلم وتعليم الآخرين. اليوم نركن جميع اوهامنا القديكة ونتمسك باحلامنا الواقعية . اليوم ونحن نرى العالم يتحول ويتغير على مدار الساعة والشباب يتقدمون منابر القيادة الفكرية والعلمية نقول يا مرحباً بالجديد. اليوم نقول أن قضية القيادة الرشيدة والحكومة الرشيدة اصبحت قضية حياة او موت؛ وأمست ضرورة لمستقبل السودان ولحياة واستمرارية السودانيين: أن يكون ويكونوا او لا يكون ولا يكونون.