التصنيف: إصــــــلاح ديـــنـــــــي

  • قراءة في كتاب “حلاج السودان” ليوسف سُمرين

    قرأتُ قبل أيام كتاب “حلاج السودان: أطروحات محمود محمد طه والحزب الجمهوري بعين النقد” من تأليف الكاتب الفلسطيني المقدسي الشاب يوسف سُمرين. صدرت الطبعة الأولى من الكتاب في عام 2020م، ويقع في 145 صفحة، وصدر عن دار اللؤلؤة في بيروت.

    ورغم أن الكاتب ينتمي بصورة عامة إلى التيار السلفي الديني (ما يُسمى بأهل السنة والجماعة)، إلا أنه قدّم – في تقديري – نقدًا موضوعيًا لأفكار ومواقف محمود محمد طه، من خلال تحليل أطروحاته الفكرية والسياسية. أوضح فيها ما كنا قد كشفناه من قبل في كتاب اختبار البطة، أن محمودًا غير أصيل في كتاباته، وإنما يقتبس دون إشارة إلى المراجع، وأنه في ذلك حاطب ليل.

    كما كشف سُمرين في كتابه الطابع التكفيري الجامح للجمهوريين وتفوقهم في ذلك على الخوارج، وشرح أي دولة استبدادية كان يريد أن يقيمها الحزب الجمهوري ومحمود، لو أُتيحت لهم الفرصة في الحكم، حيث يكون محمود فيها “الفعال لما يريد”، فهو ليس ظل الله في الأرض وإنما هو الله نفسه (الإنسان الكامل) مجسّدًا على الأرض.

    ويقارن الكاتب أيضًا بين محمود محمد طه والحلاج، وخصوصًا في فكرة وحدة الوجود والتنزل الإلهي في المخلوقات، والتأثر بالأفكار الإفلوطينية* في ذلك. وإن كان المؤلف يرفض كِلا من أفكار الرجلين، إلا أنه ينحني احترامًا للحلاج الذي لم يُنكر أفكاره بل جهر بها، بينما مارس الجمهوريون المغالطات حول طبيعة أفكارهم، رغم جهر محمود – وجهرهم بها – في العديد من الكتب والوثائق.

    ويكشف سُمرين بالتفصيل مواقف محمود والجمهوريين من قضايا القرآن، وتفسيرهم العشوائي له، وقضايا النبوة والرسالة، والصفات والأسماء، والحرام والحلال، والجنة والنار، حتى يصل إلى تأكيد ادّعاء محمود الرسالة والنبوة بل والألوهية، وبتوثيق جيّد. كما يكشف أن من انتقد الجمهوريين لم يُشوّه أفكارهم، بل أنهم هم يمارسون الإنكار والتناقض في طرحهم، والذي يغطونه بالتعالي الزائف والصوت العالي والهجومية العدائية وادّعاء التفرد الكاذب.

    كتاب سُمرين يستحق الاهتمام من القارئ السوداني، إذ إن الرجل على اطّلاع واسع على أفكار الجمهوريين، وله خلفية فلسفية ومعرفية عميقة، كشف من خلالها ضعف تأسيس محمود والجمهوريين المعرفي بل والفقهي. وكنت قد أشرتُ من قبل إلى زعم محمود أن الرجم من حدود الله، وخطأ فهمه أصلًا للمصطلح. وقد أوضح سُمرين أن جزءًا كبيرًا من مرجعية محمود الدينية، من آيات وأحاديث، إمّا أنها تُستخدم خارج سياقها، أو تُفسَّر اعتباطيًا، أو هي موضوعة أصلًا وليست بأحاديث.

    لقد تناول الدكتور قصي همرور الكتاب بمبضع النقد، في مدونته الشخصية، ولكن من المؤسف أن نقده كان دفاعيًا بحتًا وتبخيسيًا، في ممارسة تقليدية للجمهوريين الذين يظنون بأنفسهم ظنونًا عظيمة من التفوق والتفرّد. وهو الوهم الذي فضحه سُمرين شر فضح. إن من المحزن أن عقلًا قويًا وكبيرًا مثل عقل قصي همرور لا يرى كل تناقضات هذا الفكر المزعوم، بسبب الانتماء الأيديولوجي والعمى العقيدي.

    • لا يجب الخلط بين أفكار افلاطون اليوناني وأفلوطين المصري، والذين خلط بينهما العرب القدامي لتشابه الأسماء.

    نسخة بي دي اف للكتاب

  • ماذا قدم إبن عربي للعالم؟


    سألني الأخ Ahmed Omer ماذا قدم ابن عربي للعالم، وكان ذلك في اطار محاججة زعم فيها هذا الاخ ان ابن عربي قال انه هو الله ( غالباً خلط بين مفاهيمه ومفاهيم الحلاج ).
    في هذا المقال، أُسلط شيئاً من الضوء على أبرز ما قدّمه ابن عربي للعالم، من إسهامات فكرية وروحية وثقافية، مما جعله يستحق لقبي “الشيخ الأكبر” و”الكبريت الأحمر”، كما وصفه بهما كبار الفلاسفة والمتصوفين.

    موقف ابن عربي من فكرة الإتحاد والحلول:

    وفي الحقيقة فقد كان ابن عربي من خصوم فكرة الحلول والاتحاد التي طرحها الحلاج، وقال في ذلك : (العبد عبد، والرب رب، فليعرف العبد قدره، وإياك أن تعتقد الاتحاد، فإنه كفر، وإياك أن تعتقد الحلول، فإنه كفر. وإنما الحق أن تعلم أنك ظاهر بوجود الحق، لا أنك إياه، ولا أنه حل فيك.) الفتوحات المكية، الجزء الثاني، الباب الـ198.
    وفي موضع آخر يقول بوضوح: (من قال بالحلول فقد حد، ومن قال بالاتحاد فقد كفر.) المصدر: الفتوحات المكية، الباب الـ73.
    ويؤكد ابن عربي في “الفتوحات” أن الحلاج أخطأ التعبير عن تجربته العرفانية فقال: “أنا الحق”. في حين أن العارف لا يتكلم إلا عن الله، لا عن نفسه، ولا ينطق بضمير الأنا في هذا المقام.ومن أبلغ ما قاله في ذلك: ( لو أدرك الحلاج ما قلناه لسكت، ولما قال: أنا الحق. بل لقال: هو الحق.) الفتوحات المكية، الباب 73.

    بين إبن عربي وإبن تيمية:

    والشاهد أنه حين يُذكر اسم محيي الدين بن عربي (1165–1240م)، يتبادر إلى الذهن أحد أعظم رموز التصوف والفكر الفلسفي في الحضارة الإسلامية والعالم. وربما يكون هو وابن تيمية – على اختلافهما – من اكثر الشخصيات جدلاً وتأثيراً في العالم الاسلامي، كما أشار الشيخ علي جمعة، ففي حين كان ابن تيمية ملهم السلفية على مر القرون، كان ابن عربي شيخ الصوفية عبر التاريخ، رغم انه لم يُخلِّف وراءه طريقة تُذكر ( الطريقة الأكبرية المنسوبة له لا يكاد يكون لها وجود فعلي) .
    وفي الحقيقة إن ابن تيمية رغم شدة نقده لفكر ابن عربي، خصوصًا فيما يتعلق بفكرة وحدة الوجود، لم يُكفّره كما فعل كثير من تلامذته أو من جاء بعده من فقهاء السلفية، حين قال عنه : ( وابن عربي صاحب فصوص الحكم هو من أئمة أهل التصوف، وله من الكلام الجيد المستقيم كثير، وله من الكلام الباطل كثير، وإنه وإن كان من أعظم من تكلم في الفناء ووحدة الوجود، فإنه لم يكن منكرًا للشرائع ولا مبطلًا لأحكامها كما يقوله الاتحادية الزنادقة.) مجموع الفتاوى، الجزء 2، صفحة 444

    دور إبن عربي في تطوير الفلسفة العربية – الاسلامية:

    لم يكن ابن عربي مجرد متصوف انعزالي يكتب في الخلوات، او قائد صوفي طرائقي يجمع حوله الأتباع، بل كان مفكرًا موسوعيًا، متقدمًا في رؤيته للإنسان والكون والإله، متجاوزًا للحواجز الزمنية والحدود الجغرافية.
    في هذا قدّم ابن عربي مفهومًا فريدًا في الفلسفة العربية – الإسلامية عُرف لاحقًا باسم مفهوم وحدة الوجود، وهو تصور يرى أن الله هو الوجود الحق، وأن كل ما في الكون تجلٍ من تجليات ذاته، دون أن يكون هو عينه.
    هذا المفهوم لم يكن فقط رؤية دينية، بل كان أيضًا رؤية فلسفية عميقة لحقيقة الكون والإنسان والعلاقة بينهما. ألهم هذا الفكر لاحقًا فلاسفة ومتصوفة ومفكرين في الشرق والغرب، وأحدث جدلًا فكريًا عميقًا داخل الفكر والفلسفة الإسلامية وخارجهما.

    كرامة الإنسان ومفهوم الإنسان الكامل عند ابن عربي:

    كان ابن عربي يؤمن بكرامة الإنسان وعظيم قدره، باعتباره خليفة الله في الارض. هذا المفهوم لكرامة الإنسان عند الشيخ الأكبر ، وتميزه حتى على الملائكة، يفتح الباب للترقي و التحول ويشجّع على تنمية الأخلاق والسمو الروحي.
    يقول ابن عربي : (فما في الكون أعظم حرمةً من الإنسان، فإن الله خلق العالم كله من أجله، وخلق الإنسان له، فهو المخلوق على صورته، وهو الخليفة في أرضه، وهو المظهر لأسمائه وصفاته، وهو محل نظره، وهو موضع سره.) الفتوحات المكية، الجزء الثالث، الباب 268
    ومن هنا طرح ابن عربي مفهوم الإنسان الكامل باعتباره تمام التحقق والتكامل الأخلاقي والسمو الروحي للإنسان. وقد وجد هذا المفهوم طريقه إلى مدارس فلسفية وصوفية لاحقة، وكان له أثر كبير في الفكر الإنساني، إذ قرّب بين التصوف والفلسفة واللاهوت.

    التسامح الديني عند ابن عربي:

    من أبرز ما ميّز فكر ابن عربي هو انفتاحه الروحي وتأكيده على وحدة الرسالات السماوية ومقاصدها.
    قال في ذلك : (فلا تعتقد أن ما تعتقده في الله هو الحق دون غيره، بل اعلم أن الله قد تجلى في كل معتقَد، وأن كل من عبد الله على وجهٍ، فإنما عبد صورةً من صور تجليه، وهو في جميعها ظاهر، ولذا قال: ﴿كُلٌّ إلينا راجعون﴾.) فصوص الحكم – فصّ حكمة نورية في كلمة نوحية
    كما قال في واحدة من أشهر أبياته: (أدين بدين الحب أنى توجهت – ركائبه، فالحب ديني وإيماني)
    بهذا المعنى، كان ابن عربي من أوائل من نادوا بـالتعددية الدينية بوصفها تجلٍ من تجليات التجربة الروحية، ورفض الحصرية الدينية والفكرية، وهو موقف سابق لعصره بأشواط طويلة، ويُعتبر اليوم موقفًا متقدمًا في عصر التعددية الثقافية والدينية.

    الانحياز للمرأة ورد اعتبارها:

    كان ابن عربي من أسبق المفكرين المسلمين في الانحياز للمرأة ورد اعتبارها الروحي والإنساني، فقد رفض النظرة الفقهية التقليدية التي تنتقص من كمالها، وأكّد أن الإنسانية تجمع الذكر والأنثى، وأن الذكورة والأنوثة مجرد أعراض لا تمس جوهر الإنسان. قال في ذلك : (فكلامنا إذًا في صورة الكامل من الرجال والنساء. فإن الإنسانية تجمع الذكر والأنثى؛ والذكورية والأنوثية إنما هما عَرَضان، ليستا من حقائق الإنسانية) رسالة عقلة المستوفز – باب “الكمال الإنساني”.
    وفي مواجهة التصورات الذكورية السائدة، فتح ابن عربي أمام المرأة باب الولاية الكاملة، بل أقر لها بمقام “الإنسان الكامل” الذي جعله متاحًا للنساء كما الرجال. وقال في ذلك : (كل ما يصحُّ أن يناله الرجل من المقامات والمراتب والصفات يمكن أن يكون لمن شاء الله من النساء) الفتوحات المكية، الجزء الثاني، الباب 178
    ولم يكتف ابن عربي بالتنظير، بل سجّل تجربته الروحية مع شيخاته فاطمة بنت المثنى القرطبية وشمس أم الفقراء المغربية الخ وامتدح علمهما، كما خلد حبه واحترامه للمرأة في ديوان ترجمان الأشواق، الذي جعل فيه محبوبته “النظام” رمزًا للجمال الإلهي والمعرفة. لقد مثّل ابن عربي صوتًا تحرريًا نادرًا في التراث الإسلامي، رأى في المرأة شريكة كاملة في المعرفة والمحبة والقداسة.

    إبن عربي وإعادة تعريف المعرفة:

    قدّم ابن عربي رؤية شاملة للمعرفة تقوم على التذوق والكشف، لا العقل وحده، ولا النقل فقط. فرأى أن هناك معرفة شهودية، لا يدركها إلا من “ذَاق”، أي عاش التجربة الروحية.
    يقول ابن عربي في ذلك : ( فما كل من نقل عرف، ولا كل من عقل وقف، إنما العارف من ذاق، ومن ذاق عرف، ومن عرف وصف، ومن وصف ألحق.) الفتوحات المكية، ج3، الباب 267
    بهذا أسس ابن عربي لمدرسة المعرفة العرفانية، التي تعطي للتجربة الداخلية والحدس دورًا مركزيًا في فهم الحقيقة، وهو ما نراه اليوم في مدارس الفلسفة التأملية، والصوفية المعاصرة، وحتى في بعض اتجاهات علم النفس ، مثل نظريات كارل يونغ في علم النفس التحليلي، الذي ميّز بين المعرفة الواعية والمعرفة الناتجة عن اللاوعي الجمعي والرؤى الداخلية، واعتبر أن الرموز والتجربة الصوفية تعبّر عن مكنونات النفس العميقة، وكذلك مدرسة كين ويلبر (علم النفس الإنساني-الروحي)، التي ترى أن الإنسان لا يبلغ تمامه إلا بالتكامل بين العقل، والمشاعر، والحدس، والتأمل.

    إسهام إبن عربي في الكتابة والعلوم:

    كتب ابن عربي في مجالات مختلفة من بينها اللغة، الفقه، التفسير، الحديث، الفلسفة، والرياضيات الرمزية، بالإضافة إلى التصوف. في المحصلة خلّف ابن عربي ما يتجاوز ال350 عملًا بين كتب مطولة ورسائل قصيرة وشروح وأمالي ودواوين شعرية وكتب رمزية أو كشفية. بعض الباحثين قالوا ان اعماله تجاوزت ال٨٥٠ عملاً بين أعمال محفوظة ومفقودة وأعمال مشكوك نسبها اليه.
    يبقى من ضمن أشهر كتبه كتابان هما “الفتوحات المكية” ، وهو موسوعة كبري فيها أكثر من 560 بابًا في 4 مجلدات ضخمة، و”فصوص الحكم”، وهو عمل فلسفي عرفاني مركّز، عدّه ابن عربي خلاصة فكره ولبّ رسالته. والكتابان موسوعتان تدمجان بين التجربة الروحية والتأمل العقلي العميق، وتتناولان موضوعات تتعلق بالله، والكون، والزمان، والمكان، والنبوة، والولاية، والعلم.
    كما نُسب لإبن عربي تفسير للقرآن، ربما جُمعت مادته من كتابيه السابقين، يفسر فيه القرآن عرفانياً، ويعد من اكثر التفاسير تميزاً وتفرداً في تاريخ علوم القرآن وتفاسيره المتعددة.

    التأثير العالمي واللاحق لإبن عربي:

    لم يتوقف أثر ابن عربي عند حدود العالم الإسلامي. في العصور الحديثة، تُرجمت الكثير من أعماله إلى اللغات الأوروبية، ودرسها مستشرقون كبار مثل هنري كوربان (Henry Corbin) وويليام شيتيك (William Chittick) وميغيل أسين بلاثيوس (Miguel Asín Palacios)، الذين أبرزوا تأثيره على الفكر الأوروبي، وحتى على بعض تيارات الفلسفة الغربية الحديثة.
    كما أثّر الشيخ الأكبر على شعراء وفنانين وفلاسفة مختلفين مثل الادباء والشعراء جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار ومحمد اقبال وجبران خليل جبران الخ ، وفنانين مثل عابد عازرية ولوري اندرسون وفرق موسيقية عديدة من اهمها فرقة Ensemble Ibn Arabi المغربية، وفلاسفة مثل صدر الدين الشيرازي و رينيه جينون وهنري كوربان.
    أيضاً اعتبر بعض الدارسين مفاهيمه وتصوراته المعقدة للزمان والمكان والوجود الذري ووحدة الوجود والتجلي الالهي والخلق المستمر الخ، بمثابة مقدمة واستشراف لنظريات فيزيائية حديثة عن النسبية والزمكان والطاقة الكونية و الحقل الكمومي والنظام المتضمن والأكوان المتعددة الخ ، وإن بلغة رمزية. في هذا ربما، عبر الذوق والكشف، استشرف ابن عربي كثيرًا من القضايا والأسئلة التي لا تزال الفيزياء الحديثة تسعى للإجابة عنها.

    خاتمة:

    لقد قدّم ابن عربي للعالم ما يتجاوز الحدود الدينية والثقافية: قدّم رؤية كونية للإنسان والوجود والدين، تقوم على المحبة والمعرفة والتجربة، وتحترم التعدد، وتساوي بين البشر، وتدعو إلى سلام الإنسان مع نفسه وغيره.
    وبسبب من غزارة انتاجه وغنى فكره وتعدد طبقاته، لا يزال إرث إبن عربي، بعد مرور أكثر من ثمانية قرون، يُلهِم الباحثين والفلاسفة والعلماء والروحانيين، ويُعتبر جسرًا حضاريًا بين الشرق والغرب، وبين الدين والفلسفة، وبين العقل والقلب.
    لهذا كله اعدُ إبن عربي واحدًا من أعظم العقول الإنسانية على مرّ التاريخ، وأحد اكثر الناس الذين قدموا فيوضاً من المعرفة الروحية والعلمية للعالم.

    عادل عبد العاطي
    ٢٤ يوليو ٢٠٢٥م

  • ما بين الإسلام الأصل والإسلام التاريخي

    هناك فرق بين الاسلام بين دفتي المصحف وكما اتى به الرسول الكريم، وتطبيق الاسلام التاريخي كما تم منذ وفاة الرسول وحتى اليوم.

    هذا الاسلام التاريخي سلسلة طويلة من العنف والقتل والظلم واراقة الدماء وعدم احترام حقوق المسلمين ناهيك عن غير المسلمين. الشاهد ان ثلاثة من الخلفاء الراشدين تم قتلهم ، وقتل الصحابة والتابعون بعضهم بعضاً في الجمل وصفين والنهروان الخ .

    لا اتحدث هنا عن الدول الاموية والعباسية والعثمانية فقط، وهي الدول التي كانت نموذجا للجور والعسف والغزو سال فيها الدم كما الانهار، ووصل بها الحال الى ان كان فيها ملايين العبيد، وانما عن تاريخ وتجارب امتدت لأكثر من ١٤٠٠ عام.

    هذه النسخة من الاسلام التاريخي الذي وضعه السلاطين والفقهاء هي ما وصلتنا، وهي نسخة مضروبة. يخرج عن هذه النسخة وفي حدود ضيقة الاسلام الصوفي والشعبي الذي نجده اكثر ما نجده في افريقيا، وهو اسلام متسامح بسيط ، ولكنه يتراجع الآن امام المد السلفي الذي هو اسوأ نسخة من الاسلام التاريخي.

    اذا اراد الناس العودة للاسلام الحقيقي فيجب رفض هذه النسخة المضروبة واعادة قراءة القران من جديد، بفهم مقاصدي تاريخي يجعل قيمتي العدل والحرية هما الاساس في الدين والدنيا.

  • مشروع الفقه الإسلامي الجديد (1)

    البيان التأسيسي: نحو فقه معاصر يواكب كرامة الإنسان وروح العصر

     مقدمة:

    منذ قرون طويلة، تَحَجّر الفقه الإسلامي عند اجتهادات تعود لعصور مضت، عصور كانت تفتقر إلى معاييرنا الأخلاقية الحديثة، وعلومنا، ومفاهيمنا عن الإنسان والمجتمع. وقد أنتج هذا الفقه – رغم بعض إشراقاته – منظومة تَمثّلت فيها الذكورية، التسلط، القسوة، والتناقض مع جوهر الدين نفسه، ومع المقاصد العليا للتشريع: العدل، الحرية، الرحمة، والكرامة.
    اليوم، في ظل الثورة الرقمية، والعصر الإنساني ما بعد الحداثي، وظهور أدوات مثل الذكاء الاصطناعي، يتبيّن بجلاء أن الاستمرار في اجترار فقه القرن الثاني إلى التاسع الهجري لم يعد مجديًا، بل أصبح معيقًا لتطور المجتمعات المسلمة، ومصدرًا للجريمة أو الاستغلال، كما تفعل جماعات العنف والظلام.

     لماذا نحتاج فقهًا جديدًا؟


    نحن في أمسّ الحاجة إلى فقه جديد للأسباب التالية:
    1- الفقه القديم متخلف عن روح العصر: إن الفقه الذي يبرر السبي والرق، والذي إعتمد عليه الدواعش، ويصنف البشر إلى مؤمنين وكفار، ويقنن العنف الجسدي، ويختزل المرأة إلى آلة متعة، لا يمكن أن يكون صالحًا لمجتمع معاصر يؤمن بالمساواة والكرامة.
    2- الفقه القديم أنتجه بشر مثلنا: هؤلاء الرجال اجتهدوا وفق مستوى وعيهم، وخضعوا لإرادة الحكام والسلاطين، وتحكمت فيهم مصالح طبقية وجندرية. بعضهم كان أقل وعيًا حتى من مفكري عصره مثل المعتزلة وإخوان الصفا والفلاسفة وكبار الصوفية المسلمين.
    3- الفقه توقف عن التطور: منذ قرون طويلة لم يظهر فقهاء يجددون جوهر الشريعة، بل غرقوا في فتاوى تعيد إجترار فقه الإئمة الأربعة وتلاميذهم، كما صُنّف باب الاجتهاد على أنه مغلق، ما جعل الفقه علماً ميتًا. إن كثيراً من قضايا اليوم الملحة، مثل المعاملات المالية والاقتصادية الجديدة، وعلاقات المسلمين بغيرهم في بلاد الهجرة، والعلاقات الدولية في واقع العولمة، وقضايا البيئة، تحتاج الى معالجات جديدة وإنسانية.
    4- تطور المجتمعات : كثير من الدول الإسلامية، كتركيا وإندونيسيا وتونس، تبنت قوانين مدنية وعلمانية أكثر عدلًا وفعالية من أنظمة الفقه التقليدية. ولنا أن ننظر في حال تلك الدول ونقارنها بالدول التي تتبنى الفقه التقليدي، مثل إيران وأفغانستان والسودان في زمن الانقاذ الخ، لنرى البون الشاسع في التطور والاستقرار وحفظ كرامة الإنسان.

     ما هو الفقه الإسلامي الجديد الذي ندعو إليه؟


    الفقه الجديد لا يسعى الى هدم الدين، بل يهدف الى إعادة بنائه بمنهج عقلاني وإنساني، يراعي ما يلي:
    1- مرجعية المقاصد لا حرفية النصوص: نقرأ النصوص قراءة تاريخية ونتأولها بناءً على ما تقتضيه مقاصد الشريعة الكبرى: حفظ النفس، والعقل، والكرامة، والحرية.
    2- الانطلاق من حقوق الإنسان العالمية: كوثائق العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهي مما أقرتها واجازتها كل الدول ذات الأغلبية المُسلمة، بوصفها أدوات تعبير حديثة عن جوهر العدالة.
    3- تبني أدوات التفقه العقلي النقدي: المستند إلى العقل، التجربة، والمصلحة العامة، لا النقل والتقليد والجمود.
    4- تحديث فقه المعاملات والأنظمة: بالاستفادة من القانون المدني، الاقتصاد الرقمي، العقود الحديثة، والتطورات الاجتماعية.
    5- مواءمة الفقه مع الروح العالمية: تجاوز التمركز حول السلف، والمذهب، والطائفة، والحدود القومية، نحو خطاب ديني إنساني كوني.

     من أين نبدأ ؟


    هل نبدأ من الصفر؟ لا. نحن لا نبدأ من العدم، بل نقف على أسس إصلاحية راسخة، من بينها:
    1- فكر المجددين والعقلانيين من العلماء والأئمة السابقين، مثل المعتزلة، وإخوان الصفا، والصوفية العقلانيين.
    2- محاولات التنوير الإسلامي الحديث: من الكواكبي والطهطاوي وخير الدين التونسي ومحمد عبده وتيار جديد الإسلامي في آسيا الوسطى في مطلع القرن العشرين، مروراُ بقاسم أمين ومحمد الطاهر عاشور وانتهاء بمحمد شحرور وعبد الكريم سروش.
    3- اجتهادات الفقه الإباضي والشيعي النيرة في بعض جوانبها.
    4- تجارب القوانين المدنية في بعض المجتمعات والدول ذات الأغلبية المُسلمة (تركيا، ألبانيا، اندونيسيا، أذربيجان, تونس، المغرب، ماليزيا الخ).
    5- أدبيات حقوق الإنسان، والمبادئ الفلسفية للعصر الحديث.

     أهداف المشروع:

    تتلخص أهداف المشروع في التالي:
    1- إنشاء مرجعية فقهية عقلانية مستقلة عن المؤسسات الدينية التقليدية.
    2- صياغة موسوعة “الفقه الإسلامي الجديد” بلغة معاصرة.
    3- تطوير نظام معرفي إلكتروني يربط بين النصوص والمقاصد والواقع.
    4- إعداد منصة تفاعلية تعليمية ومفتوحة للجمهور المسلم والمختصين.
    5- إنتاج منهج دراسي بديل لفقه المدارس والجامعات.

     دعوة مفتوحة:

    إنني أدعو كل من يؤمن بالعقل والعدالة والكرامة إلى المساهمة في هذا المشروع، من مفكرين، وفقهاء تقدميين، وقانونيين، ونسويين، وتقنيين، وناشطين.
    هذا المشروع ليس ردّة فعل آنية، بل هو نتيجة مسار طويل لبناء عقل ديني جديد، يُجدد صلة الإنسان بالروح، دون أن يحرمه من حريته وحقه في تقرير مصيره.
    «لحرمة المؤمن أعظم عند الله من حرمة الكعبة، ماله ودمه»، هكذا جاء في الحديث الشريف. إننا نؤمن أن كل فقه لا يصون حياة وكرامة الإنسان، لا يمتّ لروح الإسلام الحقيقي بصلة.

    عادل عبد العاطي
    24 يونيو 2025م
    adil@abdelaati.org

  • ثقافة التفكير لا ثقافة التكفير : خطوط اساسية للتغيير

    ونحن نستشرف العام الجديد؛ كان لزاما علينا ان ننتبه لما اغفلناه لفترة طويلة ؛ من ضرورة التصدى الحاسم والحازم؛ للفكر السلفي الرجعي التكفيري؛ الذي عاث في بلادنا فسادا؛ وانتج لنا كمية من الحروب والاغتيالات وسيرة من الذبح والسحل لم نكن نتصورها في اسؤا كوابيسنا؛ واصبحنا اليوم وكأننا نتعايش معها أو نتقبلها كشر لا بد منه؛ وكجزء من حياتنا؛ وهيهات.. فثقافة التكفير هي بالضد من الحياة؛ وهي صنو الموت للافراد والمجتمعات.

    **
    بالمقابل تشكل ثقافة التفكير المعادل الموضوعي لتطور الحياة؛ والحافز الاول للتطور .. فما اصبح الانسان انسانا وخرج من مملكة الحيوان الا بالتفكير: باستخدام اللغة وتطور المخ والقدرة على النقد والمراجعة والابتكار.. ان تاريخ البشر انما هو في الحقيقة تاريخ الفكر والافكار.. فلولا التفكير لظللنا حتى اليوم على اغصان الاشجار او في كهوف الغابات.. بالتفكير انتقل الانسان من الخوف من الطبيعة الى محاولة فهمها .. بالتفكير اصبح الانسان اكثر قدرة على التعامل مع محيطه وواقعه وغيره من البشر؛ وقد كان ثمن التفكير باهظا في كثير من الاحيان؛ ولكن الحياة بدونه كانت ستكون سلسلة طويلة من القتل وصراع الغاب وظلام العصور الحجرية.

    *
    واذا كان معظم البشر في اغلب الاحيان يميلون الى السائد والقائم؛ واذا كانت حياة الانسان تنزع مرات الى الاستقرار؛ فتحاول ان تؤبد الافكار القديمة وتجزع من الافكار الجديدة؛ فان تاريخ العالم قد اثبت ان التحنط الفكري قاتل للمجتمعات مدمر لروحها اولا؛ ثم لاساس وجودها ثانيا .. وكثيرا ما نسمع عن حضارات سادت ثم بادت .. وما كانت سيادتها الا لانها قامت على فكرة جديدة او ابتكار جديد في مجال العلوم او الاقتصاد او الاجتماع؛ وما بادت تلك الحضارات الا لانها حنطت تلك الفكرة الجديدة او الابتكار الجديد ورأت فيه نهاية المطاف وميس النهاية؛ بل تحولت الى الرجعية وبدأت ترفض كل من ينظر بعين النقد او التطوير لتلك الفكرة التي كانت ثورية في زمانها؛ ثم تجاوزها الزمن والواقع؛ او حق عليها التطوير.. ومن هنا نقول ان التراجع عن ثقافة التفكير هو سبب انتكاس كل المجتمعات التس تسير في هذا الدرب الخطير.

    **
    ان تاريخ البشرية لهو سلسلة طويلة من حياة الفكر والشعور: الفردي والجماعي .. وقد انتقلت الحضارة بفضل الفكر والتفكير في حلقات لولبية؛ اسهم في صعودها كل شعوب العالم بلا منازع؛ وتوزعت حلقاتها بين حضارات افريقيا القديمة الراسخة؛ وافريقيا هي مهد الانسانية وبداية الحضارة؛ حيث كانت الحضارة الفرعونية والمروية الخ؛ لتنتقل الى اسيا وتصل الى اقصاها في تطور الحضارات الصينية والهندية؛ وفي الغرب كانت هناك حضارات المايا والازتك وغيرها من حضارات الهنود الحمر؛ كما في اوروبا كان تطور الحضارة الهيلينية والرومانيةمهيمنا لفترة على التاريخ؛ ثم اخذ الشرق الاوسط فرصته حين انتج اليهودية والمسيحية وحضارتيهما؛ ومن بعد بزغت الحضارة العربية الاسلامية التي حركت مسار التاريخ لقرون؛ قبل ان تسقط في الرجعية والانحدار لاخصاء العقل واقصاء التفكير.
    *
    ومع نهاية القرون الوسطة فقد انتقل تطور الحضارة بصورة واضحة الى الغرب الوسيط ؛ اى الى اوروبا والمراكز التي تاثرت بها : شمال امريكا واستراليا الخ .. حيث شهدت حركة التفكير عصفا لا مثيل له؛ تمثل في تطور التفكير العلمي واختراع الآلات والبخار واكتشاف الطباعة الخ ؛ واستيعاب معارف العصور القديمة من الحضارات السالفة : صينية وهندية ورومانية وهيلينية وعربية اسلامية الخ؛ وتطويرها بشكل لا سابق له من قبل. وقد كانت الثورة الصناعية التي بدات في انجلترا وثورة الاصلاح الديني التي نشات في المانيا وسويسرا والثورة الدستورية التي افتتحتها الجمهورية الفرنسية الخ ؛ هي العوامل الثلاثة التي ادت الى نهضة الغرب وتقدمه الشامل على الشرق والجنوب؛ واعطته قصب السبق والريادة طوال القرون الستة الماضية على غيره من العالم.

    **
    أما الشرق العربي الاسلامي؛ والذي تأثر به السودان طويلا عبر التمازج الثقافي منذ سقوط المسيحية في السودان؛ فقد شهد كغيرة فترات ازدهار وانحدار؛ وكانت اكثر فترات الاذدهار هي الفترة الاولى من دولة العباسيين؛ وهي الفترة التي شهدت حركة للعقل بعد سنوات من النقل؛ فتطور علم الكلام الاسلامي الي فلسفات مستقلة ابتدرها الفارابي وابن رشد؛ وتطور الطب على يد ابن سينا وتطورت الرياضيات و الكيمياء وعلوم الفلك وغيرها؛ ثم تراجع هذا كله مع دورة الجزر الحضاري؛ والتي تميزت بغياب العقل وسيادة النقل والنص؛ وهي السمة التي وسمت المجتمعات الاسلامية منذ انهيار دولة العباسيين والى يومنا هذا؛ وان بانقطعات قلية لم تغير من المجرى العام.

    *
    في مقابل التطور الحضاري للغرب والشمال؛ والذي كان التفكير العلمي محركه الاساس؛ كان الشرق والجنوب منهاران؛ حتى بدات المحاولات للنهوض الفكري في بعض مواقع الجنوب والشرق في القرن التاسع عشر والقرن العشرين؛ فشهدنا نهضة اليابان التقنية والعلمية؛ وراينا اذدهار الهند والصين وجنوب شرق اسيا؛ كما كانت هناك محاولات للنهوض الحضاري في كل من مصر محمد علي وفي تركيا وايران وتونس الخ؛ احرزت بعض اكلها مرات؛ وانتكست مرات كثيرة لثقل ميراث الجمود وسلطة القديم؛ ووقوف سلاح التكفير شاهرا على كل اصحاب الدعوات الجديدة في العلوم والافكار و واصلاح الدين والسياسة والمجتمع.

    **
    أما السودان والذي يقع في موقع القلب من القارة الافريقية؛ وفي تقاطع ثقافتين افريقية وعربية؛ فقد كان له قصب السبق في سابق التاريخ في مجالات علمية وفكرية كثيرة: ففي عهود المرويين كان السودان سباقا في استخدام الحديد واستخراج المعادن؛ وكان الإله الاسد ابادماك ثمرة الفكر اللاهوتي السوداني؛ كما وجدت المسيحية الشرقية ارضا خصبة لها في السودان؛ حيث سادت فيه لقرون .. وطورت الممالك النوبية العديد من منجزات زمنها؛ فكان ان ظهرت الكتابة المروية وانظمة الري والمعمار النوبي الخ؛ مما تقف اثار البركل والبجراوية وغيرها شاهدا على امكانيات الانسان السوداني؛ عندما اتيح له التفاعل الايجابي مع حضارات الشعوب.
    *
    ورغم ان السودان الحديث قد نشأ في ظروف التخلف التاريخي الذي ضرب باطنابه على الشرق والجنوب منذ القرون الوسيطة؛ ورغم انه ظل في موقع التابع للمراكز الاستعمارية الشرقية والاوربية – مصر؛ تركيا؛ انجلترا- الا انه مع اكتساب الاستقلال السياسي في العام 1956 ؛ كان يمكن له استشراف ثورة ثقافية كبيرة تغير جامد الحياة فيه؛ وتنقله الى مصاف الامم التي تعتمد العلم والتفكير طريقا للتنمية والتطور. ذلك لان تطور العالم ووسائل الاتصال اتاحت للمم المتاخرة ان تلحق بركب التقدم؛ عبر استيعاب المنجزات الحضارية للشعوب السابقة لنا؛ بدلا من تكرار تجاربها او اعادة اكتشاف النار بدق الاحجار مع بعضها مرة اخرى؛ في زمن تتوفر فيه القداحة وعلبة الكبريت.

    **
    الا ان ضعف القيادات الفكرية والسياسية التي حكمت السودان منذ الاستقلال وتصوراتها القاصرة للدولة المدنية الحديثة؛ قد جعلتنا نتراجع القهقرى؛ حيث عمدت باسم مختلف الدعوات القومية والدينية والطائفية؛ الى عزلنا عن العالم وعن مجري التطور العاصف من حولنا؛ والى اعادة انتاج القديم وصب الخمر القديم في كؤوس جديدة. وفي حين تطور العالم كله من حولنا؛ نجد اننا في الربع الاول من القرن الحادي والعشرين نناقش قضايا اباحة تزويج غير البالغ وتخرج المظاهرات مطالبة باعدام البشر في قضايا تتعلق بالفكر؛ وتدعو احزابنا “الوسطية” الى الجمهورية الاسلامية؛ و يكسو القبح حياتنا عندما تتلثم الفتيات وتنثلم العقول ويرتج على الافكار الجديدة ابوابا ثقالا وتكون على القلوب اقفالها .

    **
    وكما أن الطبيعة لا تعرف الفراغ؛ فان المجتمع نفسه لا يعرف الفراغ. لذلك ففي غياب الفكر العلمي وامام انكسار المثقفين ومهانة الفكر الحر في السودان؛ كان لا بد لتيارات الظلام والتفكير والعودة لعصور البربرية ان تعشعش وتبيض وتفرخ في السودان؛ فاتت الينا مختلف التنظيمات والمناهج التفكيرية والرجعية مستوردة من واقع التخلف الذي يحيطنا؛ فترعرعت الدعوة الكيزانية وانتشرت الوهابية وسط الشباب؛ وتفرخت تيارات للتكفير والهجرة تطل برأسها في كل أزمة؛ وتظل قنابل موقوتة في جسد شعبنا ومجتمعنا تهدده بالانفجار في اي وقت.

    *
    انني احمل النخب السياسية والفكرية السودانية مسؤولية هذا الانهيار الكبير؛ ومسؤلية دخول تلك الثقافة التكفيرية الفاشية لبلادنا وترعرعها فيها: فقد انشغلت تلك النخب بقضايا الصراع السياسي الفوقي وبالقشور الثقافية وبمغازلة التقليدي من مكونات المجتمع . ولا غرو؛ فان تلك النخب قد اخترات خيانة خيارات الثقافة والمثقفين في الدعوة للعلمية والعلمانية والديمقراطية والتنوير؛ حينما انضمت للقيادات الطائفية او انكسرت للبيروقراطية العسكرية او ركضت خلف مختلف مهووسي المشاريع الايدلوجية اليمينية واليسارية؛ والتي كانت فيها في موقع التابع الناقل؛ لا موقع المنتج الاصيل.
    **
    في هذا الطريق المظلم كانت هناك بعض اللمحات الايجابية والمضيئة؛ مثل ثورة 1924 ومشروعها التوحيدي للامة السودانية؛ ومحاولتها خلق وحدة السودانيين على اسس جديدة؛ وهي المحاولة التي واحهتها القوى القديمة بعنف شديد؛ ثم محاولة النهضة الفكرية والثقافية في الثلاثينات والاربعينات؛ او الرينسانس السوداني كما عبرت عنه شخصيات مثل معاوية محمد نور وعرفات محمد عبد الله الخ؛ ثم المحاولة التجديدية العميقة التي حاول ادخالها في الاسلام منطلقا من السودان شهيد الفكر والموقف الاستاذ محمود محمد طه؛ او مشروع السودان الجديد الذي اراده الراحل جون قرنق بديلا لبنية السودان القديمة والمتكلسة؛ والذي لم يجد حظه من التفصيل وطغت عليه قضايا السياسة وتقلباتها؛ وظل كامنا في حيز الشعار اكثر من خروجه لافاق المشروع الفكري والبرنامج القابل للتطبيق.

    *
    ان الآفة الاساسية التي حكمت تطور السودان الحديث في الجانب الثقافي؛ منذ الاستقلال على الاقل؛ قد كانت في غياب المشروع التنويري العلمي العلماني الشامل؛ الذي ينشد التغيير ويبني اطره السياسية والثقافية والاجتماعية والمدنية الخ. فالسياسة الصرفة وخصوصا التقليدية منها تعتمد على مبدأ الرزق تلاقيط او رزق اليوم باليوم؛ ولا مثابرة فيها ولا مشاريع فكرية ضخمة. وفي ظل انعدام مشروع التغيير العلمي العلماني؛ فان كل مجاهدات فردية في هذا المجال تبقى معرضة للهزيمة والضياع؛ وخصوصا ان مشاريع التجهيل تنطلق من مراكز عالمية وتتوفر لها امكانيات كثيرة وظروف ملائمة عدة؛ ليس اقلها بنية المجتمع التقليدي الاقرب لقبول الافكار القديمة منه لتقبل الافكار الجديدة.

    **
    وقد كان يمكن للتيار اليساري السوداني ان يكون حاملا لدعوة التغيير هذه ولمشروع التنوير؛ لولا انه عزل نفسه من البداية حينما اختار التكلس الايدلوجي وحينما ذهل عن دراسة القوى الاجتماعية المؤهلة لحمل رسالة التغيير؛ وفرض احكامه الطبقية على واقع مجتمع يعاني من التخلف؛ وافترض رسالة للطبقة العاملة في وقت كانت هذه الطبقة طفلا يحبو .. وبتطور الزمن وازمة المنهج وتكرر الاخطاء وعادة المثقفين السودانيين في الانكسار للسائد؛ فقد تحول اساطين التيار اليساري السوداني الى داعمين للرجعية واليمين؛ وتخلوا تماما عن دعوات التغيير والتنوير؛ بل اصبحوا طابورا خامسا يعمل ضد اي دعوة لثقافة التفكير النقدي وللتغيير الاجتماعي والثقافي الحقيقي في السودان.

    *
    لقد اصبح ضربة لازب علينا؛ ان ترتبط التيارات الديمقراطية الجديدة بمشروع شامل للتنوير والتغيير؛ بل ان تكون قائدة لهذا المشروع؛ وحاملة لهمين: ثقافي وسياسي. ان التيار الليبرالي السوداني الذي انتمي اليه قد اعلن انحيازه بصورة واضحة للمشروع العلمي العلماني ولضرورة التغيير الشامل للبنية الاجتماعية والفكرية في السودان؛ الا ان ادائه في هذا المجال لا يزال ضعيفا؛ ولا يزال دعوة التغيير وثقافة التفكير تحتاجان الى بلورة دقيقة لاطرها ووسائلها؛ حتى لا تتحول الى شعارات استهلاكية جديدة لا تحفر عميقا في ارض الواقع وفي البنية الذهنية والاجتماعية للسودانيين.
    **
    ان قضية شكل الدولة وانتمائها الثقافي تحتل مكانا هاما في عملية البلورة هذه وفي استشراف ملامحج التغيير. لقد كانت الدولة السودانية بعد الكولونيالية مسخا مشوها يجمع بين الاشكال الحديثة والجوهر المتخلف القديم. كما كانت قوانينها تدرس القانون الانجلو ساسكي مع قوانين قرون التخلف المسماة بالشريعة الاسلامية وقوانين الاحوال الشخصية؛ حتى انتكست تماما ووازنت بين جوهرها الرجعي ومظهرها بعد سبتمبر 1983. لقد اصبح من الحتمي ان ننحاز لمشروع الدولة العصرية الحديثة التي ينسجم جوهرها مع مظهرها؛ ودستورها مع قوانينها؛ وينسجم خط تطورها مع الفكر العالمي الحديث. اي اننا نحتاج الى دولة ديمقراطية علمانية لا تتوجه شرقا وانما تتوجه نحو المستقبل؛ وفي مثال الهند لنا عبرة كبيرة؛ وفي مثال تركيا لنا انموذج أقل؛ ذلك لان ازمة الديمقراطية في النموذج التركي قد اصابته في مقتل.

    *
    كما تحتاج قضية البني الاجتماعية القديمة والبالية الى معالجات جذرية : ان العنصرية والاستعلاء العرقي هي مشاكل خطيرة في السودان؛ كما لا تزال القبلية تعشعش في قلوب الكثير من السودانيين وعقولهم . وتمارس الطائفية السياسية خداعها واستغلالها للمواطنين حتى اليوم. صحيح ان هذه البنى والاشكال لن تضمحل الا بتغيير اقتصادي وعلمي كبير يشمل البلاد؛ لكن هذا التغيير لن يقوم ما لم يكن مطروحا كبرنامج للعمل والتطبيق؛ وما دمنا لا نحدد بدقة معوقاته والمشاكل التي يهدف لعلاجها. ان العفوية والتهرب من القضايا الحارقة ستؤدي في اجسن الاحوال لاعادة انتاج المسخ القديم؛ وفي اسؤاها لتشظي الدولة السودانية والانتقال لاشكال سياسية ادني ومرحلة ما قبل الدولة الحديث؛ وسيتحلل المجتمع السوداني والذي هو في طور التكوين كمجتمع؛ ليعود لمكوناته الاولى كقبائل وتجمعات عرقية ودينية كنا نظن اننا فارقناها منذ العام 1924.

    **
    و تحتل قضية موقع الدين في المجتمع والدولة اهمية قصوى؛ فما عاد من الممكن محاولات الترقيع وتقديم الخطاب العلماني في لباس اسلامي او العكس . كما لم يعد من الممكن تجاهل الخطاب الرجعي السلفي الذي يريد الارتداد بالمجتمع السوداني والدولة السودانية للقرون الوسطى؛ اذ ان هذا الخطاب متماسك في مشروعه الكلي: وهو مشروع رجعي بامتياز ومعاد لمصالح وتطلعات ومستقبل اهل السودان ودولة السودان الديمقراطية. ان هذا التيار الرجعي الان يحتل الموقع الامامي في الدفاع عن النظام القديم وتجلياته الفاشية الاكثر عنفا وعداء لشعب السودان؛ وهو يستمد قوته من سيطرته على الحكم وجهاز الدولة حاليا؛ ووجود جيوب قوية له في المعارضة – المؤتمر الشعبي – او على تخوم النظام – الوهابيين والرجعيين والسلفيين من رجال الدين والطرق الخ – ؛ ويشكل في مجموعه جبهة واسعة وقوية للردة والتخلف والعنف والاستغلال.
    *
    إن قضية تحرير المراة ومساواتها الشاملة والكاملة بشريكها الرجل تأخذ موقعا متقدما في ملامح استراتيجية ودعوة التغيير وفي ثقافة التفكير. ان اصحاب ثقافة التكفير يعتمدون على ثقافة النص المتخلفة والفقه الرجعي لادامة قهرهم للمراة السودانية ولخلق لباس ايدلوجي لافكارهم وممارساتهم المريضة والمعادية للمراة والاسرة والمجتمع. ان صياغة البديل بشكل علماني واضح وبالاعتماد على الفقه الدستوري لا الديني وتحريك جموع النساء وخلق حركة مواطنية جبارة لتحرير المراة قد اصبح ضربة لازب. وفي هذا المجال لا بد من صياغة قانون مدني موحد للاحوال الشخصية في السودان؛ واعادة صياغة كل القوانين المدنية والجنائية الخ؛ بحيث تنطبق مع مبدأ المساواة بين المواطنين الدستوري.

    **
    ان جماهير الشباب هي الحليف الاول في معركة التغيير والتنوير؛ وما فرخ الدجل التكفيري وسطها الا لغياب البديل الديمقراطي العلماني والعلمي؛ والا لمثابرة التكفيريين ونشاطهم الفائق؛ وثوريتهم اللفظية التي يستغلوا بها حماس الشباب حتى اوردوه موارد التهلكة. ان روح الشباب في ذاتها؛ اضافة الى منجزات الحضارة الحديثة من انترنت وقنوات فضائية وثورة الاتصال والمعلومات كلها تدفع الشباب نحو ثقافة التفكير النقدي ومراجعة القديم البالي والانتماء لمشروع التغيير والتفكير. ان ما ينقص هو بلورة هذا المشروع وبناء حوامله التنظيمية والفكرية؛ حتى يجد الشباب ما يتجه اليه؛ وسط موج الفكر السلفي والرجعي المتلاطم الذي تحاصره به الدولة والتنظبمات الرجعية؛ والذي مع ذلك لا يجد ترحيبا كبيرا من اغلب الشباب؛ وذلك بصورة عفوية وغريزية.

    *
    ان الاسلام السوداني الصوفي قد كان مغايرا بشكل كبير لشكل الاسلام السلفي الذي انتشر في العالم الاسلامي في عهود انخطاط الحضارة الاسلامية؛ وكان قريبا دائما من نبض المجتمع؛ وتميز بدرجة كبيرة من التسامح؛ وكانت الطرق والمراكز الصوفية مراكز اجتماعية مهمة توسل بها المجتمع لاشباع بعض احتياجاته المادية والروحية؛ وواجه بها صلف الدولة بل اثر عليها وجعلها اقل عدوانية. ان اسلام اهلنا الصوفي يظل الاقرب الى دعوة التسامح والتغيير والابعد من ثقافة التسلط والتكفير؛ وهو بهذا المعنى يشكل حليفا موضوعيا للمشروع التنويري؛ دون ان يغيب عن ذهننا الجوانب السلبية في الصوفية الطرائقية؛ او وضع بعض قادة الطرق الصوفية انفسهم مطية للحكام او قيادات الاحزاب الطائفية؛ او ان الصوفية في السودان لها بعض المقاربات السلفية؛ الا ان اغلبية الصوفيين تظل مع ذلك في انسجام مع تطلعات مواطنيها؛ وتظل الاقرب الى دعوات التسامح والتنوير والتغيير.

    *
    ان التخريب الشامل الذي احدثته ثقافة التكفير وايدلوجيات معاداة المجتمع والانسان في الشخصية السودانية والعقل السوداني كبير ويتجاوز الوصف؛ ويكفي قراءة الصحف او التجول في الاسواق او مراقبة ملابس الناس لنعرف حجم التخريب الذي احدثته فيروسات العقل تلك على عقلنا الجمعي؛ ولكن بقدر ما هناك فيروسات للعقل بقدر ما هناك ادوات لتطهير العقول من الفيروسات؛ وهناك امكانية عظيمة لاصلاح الضرر الذي لحق بالشخصية السودانية – والتي رغم ديناميكيتها الا انها تبقى بالفطرة السليمة ابعد من دعوات التفكير – واعادة المجتمع الى روح العصر ومجرى التطور الانساني.

    **
    فنعمل اذن ولنبتدر الحوار؛ من اجل ثقافة التفكير لا جهالة التكفير؛ ومن اجل تغيير الواقع للافضل؛ لا الارتداد به الى كهوف التاريخ.

    عادل عبد العاطي
    21و23 ديسمبر 2007

  • محسن خالد ومحمود محمد طه: إبداع عرفاني في مركز دائرة الوجود (السودان)

    مقدمة :

    اعلن الاديب والروائي السوداني الشاب محسن خالد مجموعة من التحولات الفكرية والبحوث العرفانية في سلسة من الكتابات السردية في منابر الانترنت السودانية ؛ كان اشهرها ما سطره في كتابته الملحمية ” زهرة الغرق” في موقع سودانيات.كوم ؛ وما صاغه في كتابة موازية بعنوان “مراجعة المنهج والتجربة” في موقع سودانيز اونلاين. الا ان اهمها واكثرها اثارة للجدل هو ما سطره قبل نهاية العام الماضي بعنوان” العاشر من صفر، الموافق 22 ديسمبر، عيد الشهيد نبي السلام، هابيل” ؛ وهي الكتابة التي اعلن فيها رؤية ابوكاليبتكية للعالم تنبأ فيها بنهايات له تبدأ من كنيسة “اللد” في انجلترا. ولم يلبث ان اعلن فيها نبوته وانه النبي الطائر والمهدي المنتظر

    ((إنّني هِبَة البارئ، المهدي المنتظر، المهدي أي التائب إلى ربّه، والنبي الطائر، المؤيَّد بنار اليشب وبمذراة الحياة والطاقة، وريث السيّد المسيح عليه السلام، المأذون بإحياء الموتى والطيران وفعل الخوارق، من سيؤمُّ المسلمين في المسجد الأقصى. ومَن أسماه السيِّد المسيح بـ(المُدَلَّل عند ربّه) المعجّنو ربّو..))

    ليتراجع من بعد سريعا عن ذلك قائلا إن هذا الزعم كان من تلبيس الشيطان عليه.

    كتابات محسن خالد ذات الطبيعة التفاعلية؛ اذ ينم نشرها – وهي طازجة – في مواقع الحوار السودانية ؛ لا تزال مستمرة في ذات النسق؛ في شكل كتابات سردية وحوارية فذة وعميقة؛ ربما تكون مشاريع كتب؛ يستخدم فيها محسن خالد تفسيرات مجددة وشخصانية وميدعة للقرآن وقراءة للرموز والأرقام والأحرف في منهج عرفاني متطرف؛ يضع فيه نفسه في مرتبة عالية من العلم. وفي نفس الوقت الذي يغترف فيه محسن خالد من رموز ونظريات حديثة بل ومن عالم الادب والفن الهوليودي؛ في مقاربات لا سلفية بالمرة ؛ يُحمل كتاباته منهجا تشاؤميا كاسحا؛ ودعوة رسالية بصراع اخير ونهائي بين قوى الخير والشر ؛ في تصور ارماجدوني للعالم؛ وان كان بصيغة اسلامية ؛ وهو تصور يلعب هو نفسه فيه دورا مركزيا؛ حيث لم تغب دعوى النبوة تماما من أجندته وان تراجع عنها تكتيكيا كما يبدو . ولكن في كتاباته الاخيرة يوحي بأنه قد يكون تجلياً جديداً للنبي يحي ؛ سيتم اشهاره في ظرف عامين.

    ((في اعتقادي أنَّ يحيى قد بعثه اللهُ من الموت في العام 1975م وأنَّ عمره الآن 38 عاماً مثل رقم الآية التي تُحَدِّد الإنظار، وبإكماله أربعين عاماً فسيعرفه العالم أجمع، والله من قبل ومن بعد هو وحده العليم بكل شيء على وجه الدقة لا التقريب)).

    دور السودان المركزي عند محسن ومحمود :

    كتابات محسن خالد الاخيرة ؛ وخصوصا في هذه المصنفات الثلاثة المذكورة اعلاه؛ اختلف حولها القراء جدا ؛ ما بين مؤيد وناقد ؛ قابل وجاحد؛ صديق وعدو . وانتظم الناس في معسكرين رئيسين: ما بين معجب بلغتها وادبياتها العالية وطرافتها ؛ من جهة ؛ و ما بين متخوف من حمولتها التعبيرية و”التفجيرية” الضخمة؛ من الجهة الاخرى. ويأتي التخوف من طرف تيارين متناقضين: التقليديين الذين يرونه خارجا عن اطر العقيدة التقليدية ومفجرا لمسلماتها؛ عبر نهجه الغنوصي؛ و الحداثيين الذين يرونه خطرا على النظرة العلمية ونصيرا ادبيا للدعوة السياسية للسلفيين والتكفيريين؛ خصوصا بعد شنه هجوما شديدا على العلمانية والعلمانيين؛ وإعلانه “التوبة” عن “علمانيته” السابقة ؛ وهو الذي كان من اكثر روايي وكتاب السودان تحررا فكرياً وفنياً. مع هجوم جارف (أخيراً) على الماسونية او من يسميهم “البنائيين العبيد” ؛ والذين يشكلوا له تحالفاً قديماُ لأهل الشر من انس وجن؛ وتوزيعه للتهم بالانتماء لهم لجملة من الكتاب والشعراء السودانيين والعرب !.

    في كل هذا يجب الاشارة الى وضع السودان في ضمن الكتابة الجديدة لمحسن خالد؛ حيث يضعه في موقع مركزي في الكون؛ ويعتبر انه مؤطي الاماكن المقدسة ؛ وانه مركز الصراع الاولي بين الخير والشر ؛ ومكان المعركة الاولى بين قابيل وهابيل؛ وربما مكان المعركة الاخيرة بين قوى الخير والشر الكونية. يقول مجسن خالد :

    ((قلتُ السودان البلد المقدس، حيث جبل الطور-التاكا المقدس، تسمية التاكا حسب تحريف الشيطان الملعون، وتوتيل هي النبع المسمّى (سَرَيا) في القرآن، الذي نبع حين ولادة أمنا مريم للمسيح عليه السلام (فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) حيث الرطب الجني بمواقيته في المدينة التي حُرّف اسمها لكسلا.))

    ويقول:

    ((السودان هو الأرض المقدسة القديمة التي شهدت خروج معظم الأنبياء الذين نعرفهم، والطور هو جبل التاكا في شرق السودان، وهو الشرق المقصود بخروج الدجال.))

    وكذلك

    ((وأريد ربط ذلك بالسودان فهو أحد مواطن الأسرار الكبرى بالنسبة لهذا الموضوع وبالنسبة للماسونية وبالنسبة لبلاد (الجن) (الجنان). هذه الحروب التي تشتعل في كل من مكان من السودان هي جزء من هذا الصراع الكوني، (اقتربت الساعة وانشق القمر) و(اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون)، الذي لا يؤمن بالله عليه أن يؤمن ويوحّد ويصلي ويتوب قبل فوات الأوان))

    محسن خالد في كل هذا ؛ هو كاتب واديب ؛ وهو لا ينسى هذه الحقيقة بل يذكر بها مرارا؛ وفي رده على بعض محاوريه ونقاده ذكرهم باحتفائهم القديم باعماله الادبية ؛ وانه اذا لم يعجبهم طرحه ولم تقنعهم افكاره فعليهم التعامل معها كنص ادبي؛ ولا يزال بين الحين والاخر يكرر هذه الثيمة. بل انه يشير – علنا – الى اقتفاءه أثر مهدي سوداني أخر هو محمد احمد المهدي في صيغة كتابته؛ ويستغرب من عدم اهتمام الناس بالمهدي محمد أحمد ك”كاتب ملهم”.

    (( لن يفوت على ذكائكم ومطالعتكم أنني أتمثّل أسلوب المهدي محمّد أحمد في “الكتابة”. بالمناسبة لماذا لم يقم أحدٌ بدراسة المهدي بوصفه “الكاتب” المُلْهَم؟)).


    منهج محسن خالد العرفاني؛ قريب ايضا من منهج المصلح الديني والصوفي الاجتماعي السوداني “محمود محمد طه” في التفسير ؛ وفي تقييم ذاته. فمحمود محمد طه كان يستخدم منهجا عرفانيا في التفسير يخرج فيه بتفسيرات جديدة كل الجدة عن النص القرآني؛ كما كان يرى نفسه أو يراه تلاميذه ك”الاصيل” الوحيد والمسيح المحمدي ورسول لرسالة ثانية للاسلام؛ وقد اعلن عن هذا مرات ولمح به مرات. الا ان محموداً كما يبدو كان يعاني من بعض ظلال الشك حول نفسه؛ ويقول انه لا يأمن مكر الله؛ في الوقت الذي طلب من تلاميذه عدم الشك فيهأ. محسن خالد في حديثه عن التلبيس الشيطاني؛ يعبر عن نفس الشك المحمودي؛ رغم اعلان الرجلان لدعوتهما الجديدة والطريفة في الواقع السوداني؛ وعدم تحرجهما في الدفاع عنها؛ رغم الشك الوجودي والمعرفي الذي عانيا منه.

    ومحمود أيضا مهموم بتقديم السودان على غيره؛ وتجده يقول أن السودان هو مركز دائرة الوجود على هذا الكوكب:

    ((أنا زعيم بأن الإسلام هو قبلة العالم منذ اليوم .. وأن القرآن هو قانونه.. وأن السودان ، إذ يقدم ذلك القانون في صورته العملية ، المحققة للتوفيق بين حاجة الجماعة إلى الأمن ، وحاجة الفرد إلى الحرية المطلقة ، هو مركز دائرة الوجود على هذا الكوكب .. ولا يهولن أحداً هذا القول ، لكون السودان جاهلاً ، خاملاً ، صغيراً ، فإن عناية الله قد حفظت على أهله من أصايل الطبائع ما سيجعلهم نقطة التقاء أسباب الأرض ، بأسباب السماء ))

    ويقول عن الخرطوم في تفسير لطيف:

    ((ولما كانت القلوب، في سويداواتها، قد جعلها الله حرما آمنا فإن منطقة الكبت لا تقع فيها، وإنما تقع في ((الخرطوم))، في ((المقرن)) في ((البرزخ)) الذي يقوم عند مجمع بحري العقل الواعي، والعقل الباطن.. قال تعالى في ذلك، ((مرج البحرين يلتقيان * بينهما برزخ لا يبغيان)).. وهذا ((الخرطوم)) هو موطن الانسان في الانسان – هو موطن الانسان الكامل، في الانسان الذي هو مشروعه المستمر التكوين- وكما أن طريق التكوين، والتطوير، لولبي، فكذلك الكبت فإنه لولبي.. هو لولب يدور حول مركز.))

    وقد وقعت على من ينسب له ان تفسير مرج البحرين هو موقع الخرطوم؛ واعتماده على الاية ((سنسمه على الخرطوم)) ولكني وللحقيقة لم اجد توثيقا لهذا . وقد سار احد المهدويين السودانيين المعاصرين(سليمان أبو القاسم موسى) أكثر فكتب رسائلا طويلة حول ان ((الخرطــوم منــارة الـهــدى (تــحمــل إســم المسيــح ومنــها يخـــرج لنــصرة المســلميـــن) )) وان ((المهدي من أرض السودان)) وأن كردفان هي ((كوفة المهدي)) وجبل مرة ((مكة المهدي)) الخ من الكتابات التي يسودن فيها المهدية ويقنع فيها بمهديته.

    الجذور الفكرية لدعوات محسن ومحمود:

    ارجع لمحمود محمد طه ومحسن خالد ؛ واقول ان دعوات الرجلين جديدة في الواقع السوداني؛ ولكنها ليست جديدة في الواقع العربي – الاسلامي والكوني. فمحمود محمد طه قد كان متأثرا بافكار ورؤى الصوفية والعرفانيين المسلمين القدامي (وكذلك الصوفية السودانية) ؛ وبأفكار ونظرية الانسان الكامل (المسيح المحمدي) ؛ ذات التراث الذاخر في الصوفية الاسلامية؛ رغم انه ادخل عليها بعدا سودانياً اصيلا. أما محسن خالد فأفكاره رغم طرافتها وجدتها واعتمادها على اساليب وقراءات حديثة للرموز ؛ الا انها تشبه مدرسة الحروفية التي اسسها فضل الله النعيمي الاسترابادي ؛ وانتشرت في الاناضول ولعبت دورا كبيرا في تركيا بفضل تلميذه الشاعر عماد الدين نسيمي ؛ كما كان لها جناحها المغربي عبر ممثلها هناك أحمد بن علي البوني؛ صاحب كتاب “شمس المعارف الكبرى” الغنوصي المشهور بصورة واسعة في السودان. وربما يكون محسن خالد اقرب الى البوني المغرم بالجداول والذي يجمع ما بين العلوم الطبيعية والعلوم الغيبية. وقد زعم البوني انه وجد مخطوطات نادرة تحت الاهرامات تعود الى فترة ما قبل الطوفان؛ وطرحه قريب في منهجه من محسن خالد الذي تحتل الاثار والمصريات جزءا كبيرا من دائرة اهتمامه وتفسيره لوقائع بداية الخلق !

    الحروفية وارتباطها بالرقمية ؛ ثم ارتباطها بالخيمياء (السيمياء) ؛ تجد جذورها في كتابات اخوان الصفا ؛ وكذلك في نظريات عبد الكريم الجيلي وتحديده لسمت الانسان الكامل. البعض يربطها ايضا بالفيثاغورية ونظرياتها حول العدد ؛ وكذلك فيما يعرف بالجمطرية وهي ام الهندسة الرياضية الحالية ؛ والتي زعمت امكانية قياس كل ما في الارض والسماء بفضل الحروف والارقام. وقد نجد في الحروفية والرقمية وعلم الرموز انعكاسا في الفن والادب والتراث الاوروبي القديم والحديث؛ فالعديدون يرون ان كتابات ناستراداموس وتنبؤاته تنهل من نهج البوني وحروفيته. أما فلسفيا فقد تجلت تأثيرات الحروفية في “الفلسفة الخفية” التي طورها كورنيليوس اغريبا؛ أما في الادب فقد تأثر بها الشاعر الفرنسي جون إيزيدور غولدشتاين ؛ وربما استمرت عليها مدرسة الحروفية وبنتها الاصغر lettrist international الباريسية. وتظل الحروفية بالنسبة لي منهجا صوفيا مرتبطا بالادب حيث كان كل زعمائها كتابا مجيدين وكان بعضهم شعراء افذاذا ؛ ومن هنا وجه آخر للمقاربة.

    عموما تظل اشراقات محسن خالد جزءا من الابداع الصوفي والديني السوداني؛ منذ الشيخ فرح ود تكتوك وحتى آخر معلن للمهدية في السودان. وقد رصدنا في وقت سابق اربعة من “المهديين” المعاصرين الناشطين في السودان. واذا ما كان هذا الابداع قد أخذ الطابع الديني ؛ فلا غرو أن يحدث ذلك في مجتمع يتخلله الوعى الديني ويغوص الى اعمق اعماق ذاته المكونة. وكما قال ماركس فان الفلاسفة لا ينبتون مثل الفطر ؛ وانما هم حصيلة مجتمعاتهم وواقعهم. كذلك الانبياء والمهدويون لا ينبتون مثل الفطر؛ وانما هم حصيلة واقعهم ومجتمعاتهم التي نشاؤا فيها؛ ونتيجة الظروف التي لا تجعل للابداع والثورة والتغيير الا غلالة دينية في عالم الجنوب؛ بينما يخرج عالم الشمال المنهج العلمي والعلماء والمستقبليين الذين هم أيضا حصيلة واقعهم ومجتمعاتهم.

    لماذا وقفت مع محسن خالد ضد خصومه ؟

    لقد وقفت مع “شطحات” محسن خالد لسبيين: الاول هو ايماني المطلق بحرية الضمير وحرية التعبير ؛ بما في ذلك حرية الاعتقاد وحرية الالحاد وحرية تكوين الاحزاب السياسية والمناهج الفكرية والطرق الصوفية بل حتى اعلان النبؤة والمهدوية. هذه التمظرهات كلها تغرف من نبع واحد وهو الروح المبدعة ورحلة الانسان في معرفة حال نفسه في الحياة والمجتمع والكون. ولا حجر هنا على أحد ؛ ما دام كل شيئ يتم سلميا وما دام الصراع يدور بالأفكار والرؤى والكلمات. ولاقتناعي التام بصدق محسن مع نفسه ومعاناته في سبيل ما يؤمن به . اما السبب الثاني فهو كمية الشاعرية الدفاقة والافكار الجديدة الطازجة والمعلومات الغزيرة والشطحات الخطيرة في كتابات محسن خالد؛ مما يجعل قرائتها متعة محضة؛ أو محض متعة.

    لهذا اقول إني متعاطف مع محسن خالد في صراعاته الوجودية وفي بحوثه الرمزية العجيبة ؛ ومعجب بلغته الشاعرية وشجاعته الادبية الفائقة ؛ رغم اني اختلف معه منهجيا؛ واضرب صفحا عن المحمول السياسي العابر لدعوته وكتاباته؛ اذ يبدو ان همه الاول ليس سياسيا بل عرفانيا؛ ومن هنا تفشل وستفشل كل محاولات استقطابه سلفيا. فالرجل عرفاني لا سلفي؛ عقلي (وان بطريقته) لا نقلي. كما اني ارى في كتابته ابداعا سودانيا محضا ؛ فماذا يضيرنا ان يكون لنا نبي طائر سوداني او ان يخرج المهدي المنتظر من السودان؛ أو ان يكون السودان رحم البشرية ومحط صراعاتها الاولى ومركز الكون؟؟ هذا لن يكون فيه الا الخير لنا في صورة اهتمام عالمي بالاثار السودانية والسياحة السودانية والفكر السوداني؛ الديني منه والعلماني ؛ فمالنا ننقض غزلنا بايدينا ونقتل الانبياء والمبدعين فينا؛ في زمن قلت فيه النبوة وضمر فيه الابداع؟.

    في النهاية اتمثل في التعامل مع محسن خالد قول النبي محمد عندما ضايقه قومه فطلب منهم أن يتركوه والناس وقال:

    (( يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب فإن هم أصابوني كان الذي أرادوا وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام و آخرين وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة))

    ثم ختم:

    ((فما تظن قريش فوالله لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة)).

    وهكذا اظن محسن خالد فاعلاً.

    عادل عبد العاطي
    20-5-2013

  • الفقهاء هم من حرم زواج المرأة المسلمة بالكتابي وليس القرآن أو السنة

     

    بعيدا عن فرقعات الترابي الإعلامية، فانه من الواضح أن النصوص الإسلامية الحاكمة، وهي القرآن وسنة الرسول، لم تمنع المرأة المسلمة من الزواج بالكتابي، بل فعل ذلك الفقهاء منطلقين من نظرتهم الذكورية الضيقة، ومتلاعبين بالنص الديني ومفسرين له على هواهم، واصلين لدرجة التزوير والتدليس في هذا الأمر.

    التحريم للكافر أو المشرك:

    يعتمد الفقهاء في تخريجهم بتحريم زواج المرأة المسلمة من الكتابي، اي اليهودي والمسيحي، علي جملة من الآيات، تتحدث كلها عن تحريم زواج المسلمة بالكافر أو المشرك، ولا تتحدث عن الكتابي قط، وهي نفس نسق الآيات التي تحرم زواج الرجل المسلم من الكافرة أو المشركة، وتبيح للمسلم الزواج من كتابية، وفي هذا نرى كيف يتلاعب الفقهاء بالنص الديني ويخضعوه لنزواتهم وهواهم، بتحريف واضح للكلم عن محله.

    (المزيد…)
  • مفهوم الزواج في القرآن

    في كتابه مدارات صوفية وفي الفصل بعنوان ” مشروع حب زوجي“ يكتب الكاتب الماركسي الصوفي الراحل هادي العلوي ان تعريف الزواج في القرآن هو أدق وأفضل تعريف للزواج ورد في أي نص أدبي أو قانوني. وهو يذكر الآية ((وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً )) الروم – 21

    والحقيقة ان تعريف الزواج الوارد في هذه الآية ؛ والبعيد كل البعد عن تخريجات الفقهاء المتخلفة ؛ التي تركز على الجنس بصورة بهيمية ؛ انما هو تعريف ممعن في الجمال والانسانية بل والرومانسية . فالزوج و الزوجة هنا ليسا كائنان منفصلان عن بعضهما؛ وانما هما مخلوقان من نفس واحدة. هما مكملان لبعضهما؛ وهما خارجان من تلك النفس؛ وراجعان اليها . ومعنى كلمة زوج هنا لا تعني فقط الرفيق او الشريك؛ وانما تعني الانسان المكمل لنا؛ نصفنا الآخر. والزوج في اللغة هو أيضا القرينُ والنظيرُ والمثيلُ.

    ويأتي هدف الزواج في القرآن للسكون الى الزوج؛ اي الاطمئنان به وله واللواذ به وحصول السكينة بينهما – وأداته أنه يجعل بينهم المودة والرحمة. ربما تأتي المودة والرحمة بفعل هذه السكينة وربما تأتي السكينة من المودة والرحمة. مَنْ دريه . والمودة احساس في الحب لطيف؛ والرحمة تكون في الاشفاق على الزوج/ة والسعي لراحته/ا . وفي هذا لي طرفة فقد حكيت لصديقي المبدع محسن خالد؛ اني كنت اعاني من الارق ولا انوم الليل؛ فلما تزوجت حبيبتي كنت القي برأسي على السرير قرب رأسها او بين ذراعيها فأخلد للنوم في ثوان ؛ وأنها كانت لا تصدقني حين أقول لها اني كنت أعاني من الأرق. فقال لي : تلك هي السكينة!.

    ولا يأت مفهوم القرآن عن خلق الازواج من نفس واحدة مفردا في هذه الآية ؛ وانما هو مبثوث في كل القرآن؛ مما يوضح أنه حقيقة أزلية؛ متجاوزة لمختلف التشريعات الظرفية والأوضاع الإجتماعية التي تعامل معها القرآن وأجاز بعضها وحجّم بعضها الآخر. فنجد القرآن يقول في سورة النساء الاية الأولى (يا ايها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والارحام ان الله كان عليكم رقيبا ) وتجده يقول في سورة الاعراف الآية 189 ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن اليها ) وكذلك في سورة الزمر الآية السادسة ( خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها ) .

    الشاهد ان مفهوم القرآن لعلاقة الزوجين البشريين يأتي من مبدأ كوني ؛ أن كل الاشياء تخلق زوجين. فنجده يقول في سورة الرعد الآية الثالثة ( هو الذي مد الارض وجعل فيها رواسي وانهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين) وفي سورة الحج الآية الخامسة (وترى الارض هامدة فاذا انزلنا عليها الماء اهتزت وربت وانبتت من كل زوج بهيج) وفي سورة الشعراء الآية الثالثة ( اولم يروا الى الارض كم انبتنا فيها من كل زوج كريم) وفي سورة الذاريات الآية 49 ( ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) وكذلك في سورة ق والرحمن الخ. ليس غروا من بعد أن يكون خلق أو جعل الزوجين من البشر ذكرا وانثى كما جاء في في سورة النجم الاية 45 ( وانه خلق الزوجين الذكر والانثى) وفي سورة القيامة الآية 39 ( فجعل منه الزوجين الذكر والانثى).

    هذا ما يدحض بشكل قاطع فرية قبول القرآن لتعدد الزوجات. فلكل ذكر في الدنيا او انثى زوجته او زوجها الواحد. يسكنان الى بعضهما البعض وبينهما المودة والرحمة. وشتان ان تجتمع الرحمة والمودة مع جحيم التعدد. والتعدد نفسه لم يسمح به الا للمطلقات والارامل من امهات اليتامى . والآيات في سورة النساء واضحة في ذلك وأن التعدد جواب شرط للخوف من عدم القسط في اليتامى . وقد التزم الرسول الكريم بموجهات القرآن حيث تزوج زوجته الوحيدة المنفردة بكرا (عائشة) بينما كانت زوجاته الباقيات مطلقات وارامل. ولا غرو فقد قيل ان الرسول كان يتخلق بإخلاق القرآن وهو أعرف الناس به وبمراميه. وعموما سنكتب عن هذا فيما قريب.

    نرجع الى هادي العلوي والأية التي اوردناها في بداية كتابنا هذا ؛ حيث يقول فيما إعدنا ترتيبه : (( هذه الأية هي آية الزواج والحب الزوجي ؛ المتماهي بالسكينة والمودة والرحمة. فالزواج ليس مجرد علاقة جسدية مشبوبة بالحب المتوقد بل هو علاقة روحية : علاقة سكينة ولياذ : يتآلف فيه رجل وأمراة يلوذ بها وتلوذ به من مصاعب ومتاعب الحياة ويكون كلاهما عونا على الغير من ناس وأشياء. على أنها لا تتجاهل الحاجة الجسدية لكليهما وقد جعلها العرب من شروط بقاء العاطفة الزوجية واستمرارها داخل العائلة)) *

    أما صديقي محسن خالد ؛ فهو يقول في هرطقاته الجميلة العبقرية ان كل شخص له زوجه زوجها له الله عند الأزل ؛ ويعتمد في ذلك على الآية ( واذا النفوس زوجت) ؛ وأن توثيق ذلك الزواج مسطر في كتاب الرحمن . وانه كان هناك زمان يعرف فيه الناس زوجاتهم الحقيقيات عن طريق القلم؛ وكانت هناك شبكة او موقع ( كان أيام يحيى (بن زكريا) مزودا ببرامج تقود الناس وترشدهم لكيفية العثور على أزواجهم الحقيقيين) **- ويعزو فشل الزيجات في وقتنا هذا ان الناس لا تتزوج ازواجها الحقيقية التي زوجت لها منذ الأزل؛ فيدخلون في الحيرة والمشاكل ولا يجدون السكينة. اعجبني طرح محسن الذي لا يخلو من طرافة – وهرطقة – ولكنه يظل اقرب لمفهوم القرآن عن الزواج من مفاهيم الفقهاء المتخلفين.

    عادل عبد العاطي

    3 فيراير 2016

    اشارات مرجعية :

    *هادي العلوي : مدارات صوفية – الطبعة الأولى – 1997- ص 54.

    ** محسن خالد : يحي بين زكريا هو المهدي المنتظر – جدول قيام الساعة .