التصنيف: شخصيــات ومــواقف

كتابات عن شخصيات سودانية وعالمية

  • قراءة في كتاب “حلاج السودان” ليوسف سُمرين

    قرأتُ قبل أيام كتاب “حلاج السودان: أطروحات محمود محمد طه والحزب الجمهوري بعين النقد” من تأليف الكاتب الفلسطيني المقدسي الشاب يوسف سُمرين. صدرت الطبعة الأولى من الكتاب في عام 2020م، ويقع في 145 صفحة، وصدر عن دار اللؤلؤة في بيروت.

    ورغم أن الكاتب ينتمي بصورة عامة إلى التيار السلفي الديني (ما يُسمى بأهل السنة والجماعة)، إلا أنه قدّم – في تقديري – نقدًا موضوعيًا لأفكار ومواقف محمود محمد طه، من خلال تحليل أطروحاته الفكرية والسياسية. أوضح فيها ما كنا قد كشفناه من قبل في كتاب اختبار البطة، أن محمودًا غير أصيل في كتاباته، وإنما يقتبس دون إشارة إلى المراجع، وأنه في ذلك حاطب ليل.

    كما كشف سُمرين في كتابه الطابع التكفيري الجامح للجمهوريين وتفوقهم في ذلك على الخوارج، وشرح أي دولة استبدادية كان يريد أن يقيمها الحزب الجمهوري ومحمود، لو أُتيحت لهم الفرصة في الحكم، حيث يكون محمود فيها “الفعال لما يريد”، فهو ليس ظل الله في الأرض وإنما هو الله نفسه (الإنسان الكامل) مجسّدًا على الأرض.

    ويقارن الكاتب أيضًا بين محمود محمد طه والحلاج، وخصوصًا في فكرة وحدة الوجود والتنزل الإلهي في المخلوقات، والتأثر بالأفكار الإفلوطينية* في ذلك. وإن كان المؤلف يرفض كِلا من أفكار الرجلين، إلا أنه ينحني احترامًا للحلاج الذي لم يُنكر أفكاره بل جهر بها، بينما مارس الجمهوريون المغالطات حول طبيعة أفكارهم، رغم جهر محمود – وجهرهم بها – في العديد من الكتب والوثائق.

    ويكشف سُمرين بالتفصيل مواقف محمود والجمهوريين من قضايا القرآن، وتفسيرهم العشوائي له، وقضايا النبوة والرسالة، والصفات والأسماء، والحرام والحلال، والجنة والنار، حتى يصل إلى تأكيد ادّعاء محمود الرسالة والنبوة بل والألوهية، وبتوثيق جيّد. كما يكشف أن من انتقد الجمهوريين لم يُشوّه أفكارهم، بل أنهم هم يمارسون الإنكار والتناقض في طرحهم، والذي يغطونه بالتعالي الزائف والصوت العالي والهجومية العدائية وادّعاء التفرد الكاذب.

    كتاب سُمرين يستحق الاهتمام من القارئ السوداني، إذ إن الرجل على اطّلاع واسع على أفكار الجمهوريين، وله خلفية فلسفية ومعرفية عميقة، كشف من خلالها ضعف تأسيس محمود والجمهوريين المعرفي بل والفقهي. وكنت قد أشرتُ من قبل إلى زعم محمود أن الرجم من حدود الله، وخطأ فهمه أصلًا للمصطلح. وقد أوضح سُمرين أن جزءًا كبيرًا من مرجعية محمود الدينية، من آيات وأحاديث، إمّا أنها تُستخدم خارج سياقها، أو تُفسَّر اعتباطيًا، أو هي موضوعة أصلًا وليست بأحاديث.

    لقد تناول الدكتور قصي همرور الكتاب بمبضع النقد، في مدونته الشخصية، ولكن من المؤسف أن نقده كان دفاعيًا بحتًا وتبخيسيًا، في ممارسة تقليدية للجمهوريين الذين يظنون بأنفسهم ظنونًا عظيمة من التفوق والتفرّد. وهو الوهم الذي فضحه سُمرين شر فضح. إن من المحزن أن عقلًا قويًا وكبيرًا مثل عقل قصي همرور لا يرى كل تناقضات هذا الفكر المزعوم، بسبب الانتماء الأيديولوجي والعمى العقيدي.

    • لا يجب الخلط بين أفكار افلاطون اليوناني وأفلوطين المصري، والذين خلط بينهما العرب القدامي لتشابه الأسماء.

    نسخة بي دي اف للكتاب

  • المدارس الإشتراكية في أفريقيا- عبد الخالق محجوب

    قرأت كتاب عبد الخالق محجوب ( المدارس الاشتراكية في افريقيا ) عندما كان عمري حوالي سبعة عشر عاما وبضعة أشهر. اعاره لي الصديق والاستاذ عبد الله الحاج القطيني. قرأته في أقل من ليلة وترك فيّ أثراً بالغاً، وخصوصا فصوله الأولى التي حللت تاريخ افريقيا ودور الدين والسحر والثقافة فيها.

    لم إعجب وقتها بما كتبه الكاتب عن موضوعه الرئيسي وهي المدارس الاشتراكية في افريقيا، واعتبرت ما كتبه عنها من قبيل الطرح السياسي الذي لا يرقى للطرح الفكري الموجود في القسم الاول من الكتاب. في ذلك الوقت لم أكن شيوعيا وإن كنت في طريقي للشيوعية.

    لقد اعتبرت هذا الكتاب الصغير دائما من أفضل الكتب التي قرأتها لعبد الخالق محجوب، باستثناء وثيقة حول البرنامج وربما وثيقة اصلاح الخطأ.

    قبل أيام ارسل لي الصديق عبد الوهاب همت نسخة الكترونية من الكتاب في طبعته الثانية عن دار عزة. وكان الكتاب قد صدر في عام 1966 في طبعته الأولى عن دار الفكر الاشتراكي. اعتقد أن في الطبعة الثانية كثير من الاخطاء الطباعية والتحريرية.

    قرأت الكتاب مرة اخرى في عجالة فوجدت ان مشاعر الاعجاب والتقدير له لم تتغير، رغم ازدياد حصيلتي المعرفية بطبيعة الحال. واذا كنت اليوم أبعد ما اكون عن الشيوعية، فإن هذا الكتاب يجعلني مرة اخرى اسجل كلمة تقدير في حق عبد الخالق محجوب.

    ويأتى التقدير من موضوع الكتاب نفسه، فهو في ظني أول كتاب من مدرسة اليسار الماركسي في السودان ، يعني في وقته بافريقيا. وهو ربما أول كتاب يكتبه سياسي سوداني شمالي عن افريقيا.

    كما ان الكتاب وإن اعتمد بكثافة على المنهج الماركسي إلا أنه قد تجاوزه في كثير من الاحيان ، بإدراكه للعوامل الثقافية والروحية في المجتمعات الافريقية، وفي إبتعاده عن الرؤى المادية الميكانيكية الفجة المميزة لماركسية ذلك الوقت.

    كما يأتى التقدير لانصاف عبد الخالق للحركة العموم افريقية ( البانافريكانزم)، والتي يسميها بالمدرسة الافريقية، رغم تبخيس الماركسية التقليدية للحركات القومية. كما ان تحليله لحركة الزنوجة ( النيغروتيود) لم يكن سلبيا تماما كما احسسته في اول قراءة لي للكتاب.

    هناك طبعا مآخذ كثيرة على الكتاب، واخطاء سياسية وفكرية فيه لا تنبع من المنهج الماركسي في حد ذاته، وانما تنبع من ضرورات السياسة الشيوعية التي فرضت نفسها على الكتاب. فعبد الخالق يحتفى بانظمة راسمالية الدولة والحزب الواحد في مصر والجزائر وغانا وتنزانيا، ويسميها انظمة اشتراكية. كما يسقط الكاتب قضية الديمقراطية في تلك البلدان، بل في عموم افريقيا ، من الاجندة تماما.

    كما ان في الكتاب ثغرات علمية فيما يتعلق بتطور افريقيا جنوب الصحراء ، حيث يرى أنها كانت بدائية ولم تختلط بالحضارة بسبب الصحراء وأن اي تطور فيها تم بسبب الهجرات المعاكسة أو أتى من مصر ووادي النيل. هذا المنهج معيب وفيه تغييب وتجاهل لتجارب مثل مملكة موتابا وعاصمتها زيمبابوي الكبرى في الجنوب وامبراطوريتي غانا ومالي في الغرب ومملكة الكنغو في الوسط.

    كما غابت عن الكتاب وثائق تاريخية مهمة في مجال الفكر السياسي الافريقي مثل دستور الماندنغو وقانون دالي الذي حكم سلطنة الفور، بل لا نجد فيه إشارة للمالك الافريقية السودانية في سنار ودارفور وتقلى وغيرها . هذا استمرار لنظرة المركزية الاوسطية او الشرق اوسطية، رغم ان عبد الخالق يطرح الأمر بأكثر الأشكال تهذيبا وتعاطفا مع افريقيا. لكن تبقى هذه نظرة استشراقية وليست من منطلقات المركزية الافريقية.

    ويخطيء الكتاب عندما يتحدث عن انتقال تعدين الحديد من مصر الى افريقيا جنوب الصحراء ، وفي الحقيقة إن أول تعدين للحديد في افريقيا ( وربما في العالم ) قد تم في أرض السودان الحالي.

    قد نعذر عبد الخالق في جل ذلك بسبب ان الدراسات التاريخية والاثرية عن افريقيا لم تكن متطورة في ذلك الوقت. لكن يجب ان نتذكر ايضا ان هذا هو الوقت الذي كتب فيه مجايل عبد الخالق المولود قبله باربعة سنوات الشيخ انتا ديوب كتابه الهام ( اسبقية الحضارة الافريقية) في 1967 والذي خرج منه لاحقا كتاب ( الأصل الافريقي للحضارة ) والذي يثبت فيه تحديدا الأصل الافريقي والزنجي للحضارة “المصرية”.

    اعتقد هنا ان التعليم العربي والانجليزي والتأثير المصري والتوجه الشرق اوسطى عند النخبة السودانية حينها، كانت عواملاً أثرت على عبد الخالق، رغم عبقريته ورغم مبادرته الكتابة عن افريقيا والتوجه نحو افريقيا.

    كما لا يخفي علينا ان عبد الخالق محجوب قد كتب ما كتب بكثير من التعاطف والحب، حتى وإن نقصت عنده بعض المعلومات أو غلب عليه المنهج الاستشراقي. والرجل في النهاية ماركسي وليس عموم افريقي.

    هناك ملاحظة اخرى وهي غياب التوثيق للحركة الليبرالية أو الوسطية أو الاصلاحية في افريقيا ، السياسية منها والفكرية، في هذا الكتيب. وفي الحقيقة فإن الكتاب – رغم عنوانه- يوثق للحركة السياسية والفكرية في قارتنا الام ، ويمكن ببساطة ان نغير عنوانه للمدارس الفكرية في افريقيا ولن نعدو الحق.

    هذه الحركة الليبرالية أو قل الوسطية عبرت عنها تيارات قادت الاستقلال في اغلب الدول الافريقية ، ومن بينها حزب الوفد في مصر والبورقيبية في تونس والحزب الليبرالي في جنوب افريقيا وكانو في كينيا وحزب هوفي بواني في ساحل العاج ومعظم التاريخ السياسي النيجيري الخ.

    كان لهذه الحركة ايضا مفكروها مثل رفاعة الطهطاوي واحمد لطفي السيد في مصر وآلان بوتون في جنوب افريقيا وخير الدين التونسي ومحمد بيرم الخامس في تونس وعلي عبد اللطيف وعبيد حاج الامين في السودان وجومو كينياتا في كينيا الخ. يمكن انتقاد هذا التيار من مواقع شتى ، وحتى من وجهة نظر ليبرالية حيث سقطت كثير من تجاربه في نموذج الحزب الواحد ( تونس / ساحل العاج / كينيا ) ، كما ان علاقته غير النقدية مع الغرب ظلت محل تساؤل.

    بالتأكيد ان عبد الخالق كشيوعي هو خصم لهذا التيار ، والذي وصفه في مرات كثيرة بالرجعية واليمينية وموالاة الغرب، إلا ان تجاهل هذا التيار وفكره تماما لا يليق بعبد الخالق المفكر أو الموثق للفكر.

    في نهاية هذه التداعيات التي حركها هذا الكتيب الصغير في حجمه والجليل في قدره، اوصي كل الحريصين على معرفة تاريخ الفكر السوداني واتباع البانافريكانزم بقراءته، قراءة نقدية لا شك. واتمنى ان يتسع الوقت لأكتب دراسة نقدية مفصلة، تحلل وتعالج بعض قصورات الكتاب، وتفصل فيما اجمله من بعض امور مهمة في الحيز الثقافي والسوسيلوجي والتاريخي لقارتنا العظيمة، عسى ان ندفع بذلك حركة الوعي الافريقي في السودان، خطوة اخرى إلى الأمام.

    عادل عبد العاطي
    2 يناير 2023م

    رابط تحميل الكتاب في صيغ متعددة:

  • ماذا قدم إبن عربي للعالم؟


    سألني الأخ Ahmed Omer ماذا قدم ابن عربي للعالم، وكان ذلك في اطار محاججة زعم فيها هذا الاخ ان ابن عربي قال انه هو الله ( غالباً خلط بين مفاهيمه ومفاهيم الحلاج ).
    في هذا المقال، أُسلط شيئاً من الضوء على أبرز ما قدّمه ابن عربي للعالم، من إسهامات فكرية وروحية وثقافية، مما جعله يستحق لقبي “الشيخ الأكبر” و”الكبريت الأحمر”، كما وصفه بهما كبار الفلاسفة والمتصوفين.

    موقف ابن عربي من فكرة الإتحاد والحلول:

    وفي الحقيقة فقد كان ابن عربي من خصوم فكرة الحلول والاتحاد التي طرحها الحلاج، وقال في ذلك : (العبد عبد، والرب رب، فليعرف العبد قدره، وإياك أن تعتقد الاتحاد، فإنه كفر، وإياك أن تعتقد الحلول، فإنه كفر. وإنما الحق أن تعلم أنك ظاهر بوجود الحق، لا أنك إياه، ولا أنه حل فيك.) الفتوحات المكية، الجزء الثاني، الباب الـ198.
    وفي موضع آخر يقول بوضوح: (من قال بالحلول فقد حد، ومن قال بالاتحاد فقد كفر.) المصدر: الفتوحات المكية، الباب الـ73.
    ويؤكد ابن عربي في “الفتوحات” أن الحلاج أخطأ التعبير عن تجربته العرفانية فقال: “أنا الحق”. في حين أن العارف لا يتكلم إلا عن الله، لا عن نفسه، ولا ينطق بضمير الأنا في هذا المقام.ومن أبلغ ما قاله في ذلك: ( لو أدرك الحلاج ما قلناه لسكت، ولما قال: أنا الحق. بل لقال: هو الحق.) الفتوحات المكية، الباب 73.

    بين إبن عربي وإبن تيمية:

    والشاهد أنه حين يُذكر اسم محيي الدين بن عربي (1165–1240م)، يتبادر إلى الذهن أحد أعظم رموز التصوف والفكر الفلسفي في الحضارة الإسلامية والعالم. وربما يكون هو وابن تيمية – على اختلافهما – من اكثر الشخصيات جدلاً وتأثيراً في العالم الاسلامي، كما أشار الشيخ علي جمعة، ففي حين كان ابن تيمية ملهم السلفية على مر القرون، كان ابن عربي شيخ الصوفية عبر التاريخ، رغم انه لم يُخلِّف وراءه طريقة تُذكر ( الطريقة الأكبرية المنسوبة له لا يكاد يكون لها وجود فعلي) .
    وفي الحقيقة إن ابن تيمية رغم شدة نقده لفكر ابن عربي، خصوصًا فيما يتعلق بفكرة وحدة الوجود، لم يُكفّره كما فعل كثير من تلامذته أو من جاء بعده من فقهاء السلفية، حين قال عنه : ( وابن عربي صاحب فصوص الحكم هو من أئمة أهل التصوف، وله من الكلام الجيد المستقيم كثير، وله من الكلام الباطل كثير، وإنه وإن كان من أعظم من تكلم في الفناء ووحدة الوجود، فإنه لم يكن منكرًا للشرائع ولا مبطلًا لأحكامها كما يقوله الاتحادية الزنادقة.) مجموع الفتاوى، الجزء 2، صفحة 444

    دور إبن عربي في تطوير الفلسفة العربية – الاسلامية:

    لم يكن ابن عربي مجرد متصوف انعزالي يكتب في الخلوات، او قائد صوفي طرائقي يجمع حوله الأتباع، بل كان مفكرًا موسوعيًا، متقدمًا في رؤيته للإنسان والكون والإله، متجاوزًا للحواجز الزمنية والحدود الجغرافية.
    في هذا قدّم ابن عربي مفهومًا فريدًا في الفلسفة العربية – الإسلامية عُرف لاحقًا باسم مفهوم وحدة الوجود، وهو تصور يرى أن الله هو الوجود الحق، وأن كل ما في الكون تجلٍ من تجليات ذاته، دون أن يكون هو عينه.
    هذا المفهوم لم يكن فقط رؤية دينية، بل كان أيضًا رؤية فلسفية عميقة لحقيقة الكون والإنسان والعلاقة بينهما. ألهم هذا الفكر لاحقًا فلاسفة ومتصوفة ومفكرين في الشرق والغرب، وأحدث جدلًا فكريًا عميقًا داخل الفكر والفلسفة الإسلامية وخارجهما.

    كرامة الإنسان ومفهوم الإنسان الكامل عند ابن عربي:

    كان ابن عربي يؤمن بكرامة الإنسان وعظيم قدره، باعتباره خليفة الله في الارض. هذا المفهوم لكرامة الإنسان عند الشيخ الأكبر ، وتميزه حتى على الملائكة، يفتح الباب للترقي و التحول ويشجّع على تنمية الأخلاق والسمو الروحي.
    يقول ابن عربي : (فما في الكون أعظم حرمةً من الإنسان، فإن الله خلق العالم كله من أجله، وخلق الإنسان له، فهو المخلوق على صورته، وهو الخليفة في أرضه، وهو المظهر لأسمائه وصفاته، وهو محل نظره، وهو موضع سره.) الفتوحات المكية، الجزء الثالث، الباب 268
    ومن هنا طرح ابن عربي مفهوم الإنسان الكامل باعتباره تمام التحقق والتكامل الأخلاقي والسمو الروحي للإنسان. وقد وجد هذا المفهوم طريقه إلى مدارس فلسفية وصوفية لاحقة، وكان له أثر كبير في الفكر الإنساني، إذ قرّب بين التصوف والفلسفة واللاهوت.

    التسامح الديني عند ابن عربي:

    من أبرز ما ميّز فكر ابن عربي هو انفتاحه الروحي وتأكيده على وحدة الرسالات السماوية ومقاصدها.
    قال في ذلك : (فلا تعتقد أن ما تعتقده في الله هو الحق دون غيره، بل اعلم أن الله قد تجلى في كل معتقَد، وأن كل من عبد الله على وجهٍ، فإنما عبد صورةً من صور تجليه، وهو في جميعها ظاهر، ولذا قال: ﴿كُلٌّ إلينا راجعون﴾.) فصوص الحكم – فصّ حكمة نورية في كلمة نوحية
    كما قال في واحدة من أشهر أبياته: (أدين بدين الحب أنى توجهت – ركائبه، فالحب ديني وإيماني)
    بهذا المعنى، كان ابن عربي من أوائل من نادوا بـالتعددية الدينية بوصفها تجلٍ من تجليات التجربة الروحية، ورفض الحصرية الدينية والفكرية، وهو موقف سابق لعصره بأشواط طويلة، ويُعتبر اليوم موقفًا متقدمًا في عصر التعددية الثقافية والدينية.

    الانحياز للمرأة ورد اعتبارها:

    كان ابن عربي من أسبق المفكرين المسلمين في الانحياز للمرأة ورد اعتبارها الروحي والإنساني، فقد رفض النظرة الفقهية التقليدية التي تنتقص من كمالها، وأكّد أن الإنسانية تجمع الذكر والأنثى، وأن الذكورة والأنوثة مجرد أعراض لا تمس جوهر الإنسان. قال في ذلك : (فكلامنا إذًا في صورة الكامل من الرجال والنساء. فإن الإنسانية تجمع الذكر والأنثى؛ والذكورية والأنوثية إنما هما عَرَضان، ليستا من حقائق الإنسانية) رسالة عقلة المستوفز – باب “الكمال الإنساني”.
    وفي مواجهة التصورات الذكورية السائدة، فتح ابن عربي أمام المرأة باب الولاية الكاملة، بل أقر لها بمقام “الإنسان الكامل” الذي جعله متاحًا للنساء كما الرجال. وقال في ذلك : (كل ما يصحُّ أن يناله الرجل من المقامات والمراتب والصفات يمكن أن يكون لمن شاء الله من النساء) الفتوحات المكية، الجزء الثاني، الباب 178
    ولم يكتف ابن عربي بالتنظير، بل سجّل تجربته الروحية مع شيخاته فاطمة بنت المثنى القرطبية وشمس أم الفقراء المغربية الخ وامتدح علمهما، كما خلد حبه واحترامه للمرأة في ديوان ترجمان الأشواق، الذي جعل فيه محبوبته “النظام” رمزًا للجمال الإلهي والمعرفة. لقد مثّل ابن عربي صوتًا تحرريًا نادرًا في التراث الإسلامي، رأى في المرأة شريكة كاملة في المعرفة والمحبة والقداسة.

    إبن عربي وإعادة تعريف المعرفة:

    قدّم ابن عربي رؤية شاملة للمعرفة تقوم على التذوق والكشف، لا العقل وحده، ولا النقل فقط. فرأى أن هناك معرفة شهودية، لا يدركها إلا من “ذَاق”، أي عاش التجربة الروحية.
    يقول ابن عربي في ذلك : ( فما كل من نقل عرف، ولا كل من عقل وقف، إنما العارف من ذاق، ومن ذاق عرف، ومن عرف وصف، ومن وصف ألحق.) الفتوحات المكية، ج3، الباب 267
    بهذا أسس ابن عربي لمدرسة المعرفة العرفانية، التي تعطي للتجربة الداخلية والحدس دورًا مركزيًا في فهم الحقيقة، وهو ما نراه اليوم في مدارس الفلسفة التأملية، والصوفية المعاصرة، وحتى في بعض اتجاهات علم النفس ، مثل نظريات كارل يونغ في علم النفس التحليلي، الذي ميّز بين المعرفة الواعية والمعرفة الناتجة عن اللاوعي الجمعي والرؤى الداخلية، واعتبر أن الرموز والتجربة الصوفية تعبّر عن مكنونات النفس العميقة، وكذلك مدرسة كين ويلبر (علم النفس الإنساني-الروحي)، التي ترى أن الإنسان لا يبلغ تمامه إلا بالتكامل بين العقل، والمشاعر، والحدس، والتأمل.

    إسهام إبن عربي في الكتابة والعلوم:

    كتب ابن عربي في مجالات مختلفة من بينها اللغة، الفقه، التفسير، الحديث، الفلسفة، والرياضيات الرمزية، بالإضافة إلى التصوف. في المحصلة خلّف ابن عربي ما يتجاوز ال350 عملًا بين كتب مطولة ورسائل قصيرة وشروح وأمالي ودواوين شعرية وكتب رمزية أو كشفية. بعض الباحثين قالوا ان اعماله تجاوزت ال٨٥٠ عملاً بين أعمال محفوظة ومفقودة وأعمال مشكوك نسبها اليه.
    يبقى من ضمن أشهر كتبه كتابان هما “الفتوحات المكية” ، وهو موسوعة كبري فيها أكثر من 560 بابًا في 4 مجلدات ضخمة، و”فصوص الحكم”، وهو عمل فلسفي عرفاني مركّز، عدّه ابن عربي خلاصة فكره ولبّ رسالته. والكتابان موسوعتان تدمجان بين التجربة الروحية والتأمل العقلي العميق، وتتناولان موضوعات تتعلق بالله، والكون، والزمان، والمكان، والنبوة، والولاية، والعلم.
    كما نُسب لإبن عربي تفسير للقرآن، ربما جُمعت مادته من كتابيه السابقين، يفسر فيه القرآن عرفانياً، ويعد من اكثر التفاسير تميزاً وتفرداً في تاريخ علوم القرآن وتفاسيره المتعددة.

    التأثير العالمي واللاحق لإبن عربي:

    لم يتوقف أثر ابن عربي عند حدود العالم الإسلامي. في العصور الحديثة، تُرجمت الكثير من أعماله إلى اللغات الأوروبية، ودرسها مستشرقون كبار مثل هنري كوربان (Henry Corbin) وويليام شيتيك (William Chittick) وميغيل أسين بلاثيوس (Miguel Asín Palacios)، الذين أبرزوا تأثيره على الفكر الأوروبي، وحتى على بعض تيارات الفلسفة الغربية الحديثة.
    كما أثّر الشيخ الأكبر على شعراء وفنانين وفلاسفة مختلفين مثل الادباء والشعراء جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار ومحمد اقبال وجبران خليل جبران الخ ، وفنانين مثل عابد عازرية ولوري اندرسون وفرق موسيقية عديدة من اهمها فرقة Ensemble Ibn Arabi المغربية، وفلاسفة مثل صدر الدين الشيرازي و رينيه جينون وهنري كوربان.
    أيضاً اعتبر بعض الدارسين مفاهيمه وتصوراته المعقدة للزمان والمكان والوجود الذري ووحدة الوجود والتجلي الالهي والخلق المستمر الخ، بمثابة مقدمة واستشراف لنظريات فيزيائية حديثة عن النسبية والزمكان والطاقة الكونية و الحقل الكمومي والنظام المتضمن والأكوان المتعددة الخ ، وإن بلغة رمزية. في هذا ربما، عبر الذوق والكشف، استشرف ابن عربي كثيرًا من القضايا والأسئلة التي لا تزال الفيزياء الحديثة تسعى للإجابة عنها.

    خاتمة:

    لقد قدّم ابن عربي للعالم ما يتجاوز الحدود الدينية والثقافية: قدّم رؤية كونية للإنسان والوجود والدين، تقوم على المحبة والمعرفة والتجربة، وتحترم التعدد، وتساوي بين البشر، وتدعو إلى سلام الإنسان مع نفسه وغيره.
    وبسبب من غزارة انتاجه وغنى فكره وتعدد طبقاته، لا يزال إرث إبن عربي، بعد مرور أكثر من ثمانية قرون، يُلهِم الباحثين والفلاسفة والعلماء والروحانيين، ويُعتبر جسرًا حضاريًا بين الشرق والغرب، وبين الدين والفلسفة، وبين العقل والقلب.
    لهذا كله اعدُ إبن عربي واحدًا من أعظم العقول الإنسانية على مرّ التاريخ، وأحد اكثر الناس الذين قدموا فيوضاً من المعرفة الروحية والعلمية للعالم.

    عادل عبد العاطي
    ٢٤ يوليو ٢٠٢٥م

  • ابن عربي والنظام- قصة حب معلن

    مقدمة:

    قد تكون أكبرَ حالةِ حبٍّ مُعلَن لرجل دينٍ إسلامي (بعد حبِّ الرسول الكريم للسيدة عائشة) هي حالةَ حبِّ الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي للفتاة التي سُمّيت بـ”نِظام” أو “النِّظام”، ولقّبت بـ”قُرَّة العين”، وهي التي كتب عنها ديوانَه ترجمان الأشواق، ولا فَتِئ يذكُرُها من حينٍ لآخر، علامةً على الحب الأبدي والمُعلَن.

    قراءة المزيد: ابن عربي والنظام- قصة حب معلن

    قصة اللقاء:

    ويحكي ابن عربي عن أوّل لقائه بنِظام أو قُرّة العين، فيقول في كتابه ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق:

    “كنت أطوف ذات ليلة بالبيت، فطاب وقتي، وهزّني حال كنتُ أعرفه، فخرجتُ من البلاط من أجل الناس، وطفتُ على الرمل، فحضرتني أبياتٌ فأنشدتُها أُسمِع بها نفسي ومن يليني – لو كان هناك أحد – وهي قوله:

    ليت شعري هل دروا ** أيّ قلبٍ ملكوا

    وفؤادي لو درى ** أيّ شُعبٍ سلكوا

    أتراهم سلِموا ** أم تراهم هلكوا

    حار أربابُ الهوى ** في الهوى وارتبكوا

    فلم أشعرْ إلا بضربة بين كتفي بكفٍّ ألينَ من الخزّ، فالتفتُّ فإذا بجاريةٍ من بنات الروم، لم أرَ أحسنَ وجهاً، ولا أعذبَ منطقاً، ولا أرقَّ حاشية، ولا ألطفَ معنى، ولا أدقَّ إشارة، ولا أظرفَ محاورةً منها؛ قد فاقت أهل زمانها ظرفاً وأدباً وجمالاً ومعرفة، فقالت: يا سيدي، كيف قلت؟ فقلت: ليت شعري هل دروا ** أيّ قلبٍ ملكوا.

    فقالت: عجباً منك، وأنت عارفُ زمانك، تقول مثل هذا! أليس كل مملوك معروفاً؟ وهل يصحّ الملك إلا بعد المعرفة؟! وتمنّي الشعور يؤذِن بعدمها، والطريق لسانُ صدق، فكيف يجوز لمثلك أن يقول مثل هذا؟ قل، يا سيدي، ماذا قلتَ بعده؟ فقلت: وفؤادي لو درى ** أيّ شُعبٍ سلكوا.

    فقالت: يا سيدي، الشُّعَبُ التي بين الشغاف والفؤاد هي المانع له من المعرفة؛ فكيف يتمنّى مثلك ما لا يمكن الوصول إليه إلا بعد المعرفة؟! والطريق لسانُ صدق، فكيف يجوز لمثلك أن يقول مثل هذا، يا سيدي؟! فماذا قلتَ بعده؟ فقلت: أتراهم سلِموا ** أم تراهم هلكوا.

    فقالت: أمّا هم فسَلِموا، ولكن أسأل عنك؛ فينبغي أن تسأل نفسك: هل سلِمتَ أم هلَكتَ، يا سيدي؟ فما قلتَ بعده؟ فقلت: حار أربابُ الهوى ** في الهوى وارتبكوا.

    فصاحت وقالت: يا عجباً! كيف يبقى للمشغوف فضلةٌ يُحار بها؟ والهوى شأنه التعميم، يُخدِّر الحواس، ويذهب العقول، ويُدهش الخواطر، ويذهب بصاحبه في الذاهبين؛ فأين الحيرة؟! وما هنا باقٍ فيُحار، والطريق لسانُ صدق، والتجوُّز من مثلك غير لائق.”

    التعارف:

    ويمضي ابن عربي بعد هذا الحوار العجيب الذي أفحمته فيه الفتاة، فيذكر:

    “فقلتُ: يا بنت الخالة، ما اسمك؟ قالت: قُرَّة العين. فقلتُ: لي. ثم سلّمتْ وانصرفتْ. ثم إني عرفتها بعد ذلك وعاشرتُها، فرأيتُ عندها من لطائف المعارف الأربع ما لا يصفه واصف.”

    ومن الواضح أن الفتاة كانت تعرف ابن عربي؛ إذ تسميه بـ”عارف زمانه”، وهو لا يعرفها، مع أنه كان يعرف أباها، وكان صديقاً روحياً له، وقد ذكره في نفس الكتاب وفي مواضع أخرى، وهناك دلائل على تعاونهما العلمي وأخوتهما الروحية، حيث يقول:

    “فإني لما نزلت مكة سنة خمسمائة وثمانٍ وتسعين، ألفيت بها جماعةً من الفضلاء، وعصابةً من الأكابر والأدباء والصلحاء، بين رجال ونساء، ولم أرَ فيهم – مع فضلهم – مشغولاً بنفسه، مشغوفاً فيما بين يومه وأمسه، مثل الشيخ العالم الإمام، بمقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، نزيل مكة، البلد الأمين، مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم بن أبي الرجاء الأصفهاني – رحمه الله.”

    قصة حبٍّ مُعلَن:

    ويمضي ابن عربي أكثر ليصف “النظام” أو “قُرَّة العين”، في كلمات تنضح بالحب، فيقول:

    “وكان لهذا الشيخ – رضي الله عنه – بنتٌ عذراء، طفيلةٌ هيفاء، تقيّد النظر، وتُزيِّن المحاضر، وتحيّر المناظر، تُسمّى بالنظام، وتلقّب بعين الشمس، وإليها من العابدات العالمات السابحات الزاهدات، شيخة الحرمين، وتربية البلد الأمين الأعظم بلامين، ساحرة الطرف، عراقية الظرف، إن أسهبتْ أتعبتْ، وإن أوجزتْ أعجزتْ، وإن أفصحتْ أوضحتْ، إن نطقتْ خَرِسَ قُسُّ بن ساعدة، وإن كرُمتْ خَنِسَ معنُ بن زائدة، وإن وَفَتْ قصّر السموأل خُطاه، وأغرى ورأى بظهر الغُرر وامتطاه.”

    ويمضي أكثر ليقول:

    “ولولا النفوسُ الضعيفة، السريعةُ الأمراض، السيئةُ الأغراض، لأخذتُ في شرح ما أودع الله تعالى في خلقها من الحُسن، وفي خُلُقها الذي هو روضةُ المزن، شمسٌ بين العلماء، بُستانٌ بين الأدباء، حُقَّةٌ مختومة، واسطة عقدٍ منظومة، يتيمةُ دهرها، كريمةُ عصرها، مسكنُها جياد، وبيتها من العين السواد، ومن الصدر الفؤاد، أشرقتْ بها تهامة، وفتح الروضُ لمجاورتها أكمامه… عليها مسحةُ مَلَك، وهمّةُ مَلِك… فقلّدناها من نَظْمنا في هذا الكتاب ترجمان الأشواق أحسن القلائد بلسان النسيب الرائق، وعبارات الغزل اللائق، ولم أبلغْ في ذلك بعضَ ما تجده النفس من كريم ودّها وقديم عهدها، إذ هي السُؤْلُ والمأمول، والعذراء البتول، ولكن نظّمنا فيها بعضَ خاطر الاشتياق من تلك الذخائر والأعلاق… فكلُّ اسمٍ أذكره في هذا الجزء فعنها أُكنّي، وكلُّ دارٍ أندبها فدارها أعني.”

    زواج الشيخ من النظام:

    ورغم أن حبّ ابن عربي للنظام أمرٌ مُعلَن، فقد حاول السلفيون – ولا يزالون – أن يجعلوا منه منقصةً في حق الشيخ؛ والذي تشير كل الدلائل إلى أنه تزوّج بالنظام؛ ومن ذلك قوله:

    “فقلت: يا بنت الخالة، ما اسمك؟ قالت: قُرَّة العين. فقلت: لي.”مما يعني عزمه على زواجها؛ وخصوصاً لما اتّضح أنها بنت صديقه، ولِما رأى فيها من علمٍ وملاحةٍ وذكاء، مما أسرف في وصفه. ثم إن ابن عربي يقول:

    “ثم إني عرفتها بعد ذلك وعاشرتُها، فرأيتُ عندها من لطائف المعارف الأربع ما لا يصفه واصف.”

    ولا يُعقَل لمن كانت بنتَ زعيمٍ ورجلِ دينٍ أن تكون معرفتها ومعاشرتها لابن عربي حتى يجد منها “ما لا يصفه واصف” إلا في سياق الزواج.

    على أن ابن عربي يذهب أبعد من ذلك؛ حين يقول في كتابه محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار – والذي ينقل فيه الكثير من قصائده عن النظام – بعد أن يحكي قصة لقائه معها:

    “وكان لنا أهلٌ تُقرّ العين بها، ففرّق الدهر بيني وبينها، فتذكّرتُها ومنزلها بالحلة من بغداد.”

    وكلمة “أهل” في اللغة التراثية تعني الزوجة، أما قوله “تقر العين بها”، فهو قطعاً إشارة للقبها “قُرَّة العين”، وهو من أساليب ابن عربي البلاغية في المجاز والإشارة، إلا أن الإشارة واضحة هنا بأنها كانت زوجته. ولا نعلم سرّ افتراق ابن عربي عنها، أو افتراقها عنه، ولكننا نعلم قطعاً أنها سكنت بغداد بعد ذلك؛ وفي ذلك يقول ابن عربي:

    أحبُّ بلادَ الله لي بعد طيبةٍ ** ومكةَ والأقصى مدينةُ بغدان

    ومالي لا أهوى السلامَ ولي بها ** إمامُ هُدى ديني وعقدي وإيماني

    وقد سكنتها من بَناتِ فارسٍ ** لطيفةُ إيماءٍ مريضةُ أجفان

    تُحيِّي فتُحيِي من أماتتْ بلحظها ** فجاءتْ بحُسنى بعد حُسنٍ وإحسان

    ترجمان الأشواق – أثر الحب الباقي:

    إلا أن الأثر الباقي من قصة الحب المُعلَن يظل كتاب ترجمان الأشواق، والذي من الواضح أن قصائده قد كُتبت في فترات مختلفة؛ بدءاً من سنة 598 هـ، وهي السنة التي تعرّف فيها على النظام، ثم جمعها في كتاب واحد في تلك السنة. وربما أضاف ابن عربي للكتاب بعد ذلك قصائد جديدة، وأصدر الكتاب بنسخته النهائية بعد ذلك بسنين، ذلك أن ابن عربي حين يذكر أبا النظام في مقدمة الكتاب، فإنه يترحّم عليه، وتقول المراجع إن الرجل قد مات عام 609 هـ، فوق إشارة الديوان إلى أماكن عديدة في بغداد والبصرة، والتي لم يزرها ابن عربي إلا في سنتي 601 ثم 608 هـ.

    ولما كان كتاب ترجمان الأشواق قد أثار الكثير من الضجّة، وجعل بعض فقهاء الشام يشنّعون على ابن عربي، فقد تقدم صاحباه بدر الحبشي وإسماعيل بن سودقين يطلبان إليه شرح هذا الديوان، رغم أن ابن عربي قد كتب في مقدمة الديوان أن كلَّ ما يذكره من أسماء ومديح وغزل في هذا الكتاب إنما هو إشارة إلى معانٍ إلهيةٍ رفيعة. وقد أضاف ابن عربي في الباب 98 من كتابه الموسوعي الفتوحات المكية أن ما يذكره في أشعاره – فيما يخص ترجمان الأشواق وغيره – “أنها كلّها معارفُ إلهيةٌ في صورٍ مختلفة من تشبيبٍ ومديحٍ وأسماء نساءٍ وصفاتهنّ وأنهارٍ وأماكن ونجوم”.

    خاتمة:

    لكن لم يكن كلُّ هذا مُقنِعاً للفقهاء الغلاظ؛ لهذا السبب اضطر ابن عربي لكتابة كتابٍ آخر، شرحاً للديوان، وهو كتاب ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق، كتبه عام 611 هـ في حلب، وقال فيه تبريراً:

    “ولم أزل فيما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية، والتنزلات الروحانية، والمناسبات العلوية، ولعلمها – رضي الله عنها – بما إليه أُشير، ولا يُنبّئك مثل خبير، والله يعصم قارئ هذا الديوان من سبقِ خاطره إلى ما لا يليق بالنفوس الأبية، والهمم العليّة المتعلقة بالأمور السماوية، آمين بعزّة من لا ربّ غيره، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.”

    وقد يكون في الحب من مثل ذلك كلّه، إذا كان – كما يقول ابن عربي – ديناً وإيماناً.

    عادل عبد العاطي

    23–9–2008

  • بروفيسور معز كما عرفته

    ومن باب من لا يشكر الناس لا يشكر الله الواردة في الرسالة، ولأننا السودانيون قد عُرفنا بتجاهل قدر الرجال والنساء حتى يأتي يوم شكرهم، استغل هذه السانحة لاكتب بعض كلمات عن بروفيسور معز عمر بخيت.

    لقد تعرفت على بروفيسور معز بصورة شخصية قبل ١٩ عاماً تقريباً، في عام ٢٠٠٦ وحين كانت البلاد مقبلة على انتخابات طالما انتظرناها، وحين كانت له الرغبة ان يخدم البلاد عبر خوض السباق الديمقراطي. لم يكن لنا مرشح آنذاك ونقلت رغبة ترشيحه وبرنامجه للحزب الليبرالي للنظر في دعمه. رغم ان الحزب لم يحسم القرار لصالحه حينها، ورغم انه لم يترشح إلا انه تأسست بيننا معرفة طيبة منذ ذلك الحين.

    توثقت هذه المعرفة بعد ذلك في حوارات مختلفة في الاسافير حيث كان نشطاً بالكتابة في المنابر السودانية. اسس في وقت لاحق منتداه عكس الريح والذي كان منتدي ثقافياً حوارياً جميلاً ، حمل بعض روحه، وكان في لحظة ما المنتدى الوحيد الذي كنت اكتب فيه عندما كشر اصحاب المنتديات الاخرى عن انيابهم الشمولية وحجرهم على الراي، رغم ان بعضهم كانوا يدعون المعارضة والنضال من اجل حقوق الانسان، ورغم اننا من ساعدناهم بمعرفتنا ووقتنا وامكانياتنا في تأسيس تلك المنتديات.

    لاحقاً توثقت العلاقات بيننا قبيل ثورة ديسمبر، وتحديداً منذ عام ٢٠١٧ ، وعملنا مع بعض طوال عامي ٢٠١٨-٢٠١٩ في دعم الحراك الشبابي والجماهيري والمدني، انا عبر سودان المستقبل وهو عبر مبادرة قيادة الثورة السودانية ( اثق)، وفي دعم مبادرات أثق الصحية والتعليمية التي كان هو قائدها، ولاحقاً بعد الثورة في مشاريع اخرى من بينها مشروع قناة ( نادوس) الفضائية.

    في كل هذه السنوات عرفت بروفيسور معز إنساناً كريماً طيب المعشر، مهذباً وديمقراطياً من الطراز الأول. على عكس الكثير من الاطباء لم يكن يرى في مهنته الا خدمة الناس، وعلى عكس الكثير من السياسيين لم يكن من المنفردين بالرأي الواقفين على اراضي الايدلوجيات كريهي الفكر والمعشر .

    عندما تم اختياره لمنصب وزير الصحة اشفقت عليه. ليس فقط لانهيار القطاع الصحي تماماً والحاجة لجهد الجبابرة لايقاف الانهيار، ناهيك عن النهوض به، وليس بسبب الجو الصعب للعمل في ظل الفوضى الدستورية والسياسية والادارية السائدة في السودان، ولكن قبل كل شيء لأنه مختلف تماماً عن المحيط السياسي والاجتماعي في السودان، حيث يصبح الإنسان الديمقراطي المهذب طيب المعشر كاليتيم على مائدة اللئام.

    تحدثت مع البروفيسور عدة مرات بعد حادثة كسر احدى رجليه وفكك الاخرى، ورغم اقتناعي بضرورة الاصلاح وانه افضل من يمكن ان يقود وزارة الصحة حالياً، الا اني لم اصر عليه على المواصلة، خصوصاً بعد التطورات الصحية السلبية التي مر بها مؤخراً.

    كنت اعرف ان بروفيسور معز يتعامل بجدية مع هذا التكليف وكنت ارى كيف ارهقته هذه الحادثة، نفسياً قبل البدن. ما كان الرجل يرغب ان يكون تمامة جرتق او ان يضيف فقط لقب وزير لسيرته الذاتية. كان يرغب في خدمة البلاد بشكل حقيقي ووفق برنامج علمي وخبرة وعلاقات راكمها خلال عشرات السنين . قلت له في احد الحوارات وبعد ان حسم امره انه اذا كسب راحة البال والجسد بالتنحي، الا ان السودان قد خسر لا محالة بارقة من الامل، وفرصة ان يقود قطاع الصحة فيه “حكيم” حقيقي.

    التحية لك يا بروف وان شاء الله تبلغ الشفاء سريعاً، وتخدم هذه البلد الطيب اهلها من موقع آخر، وانت لم تكف عن خدمتها طوال السنين، وطوبي لك وشكراً ، يا واحداً من قليل الرجال المحترمين.

    عادل عبد العاطي

    ٢١ اغسطس ٢٠٢٥م

  • إنتخاب إيمانويل ماكرون والقضية السودانية

    تم يوم أمس تغيير تاريخي في فرنسا حيث تم إنتخاب أيمانويل ماكرون بأغلبية حوالي 66 % لصالحه مقابل 34% لصالح مرشحة اليمين المتطرف مارلين لوبان. ورغم إن كل إستطلاعات الرأي كانت توضح تفوق ماكرون الواضح وإمكانية حصوله على أكثر من 60% من الأصوات في الجولة الثانية من الإنتخابات ، إلا إن العالم كان ينظر بقلق وترقب خوفاً من امكانية إنتصار مرشحة اليمين المتطرف بما تطرحه من برنامج معادي للاجانب ولاوروبا وللسوق الحر والتجارة العالمية ولعلاقاتها المشبوهة بروسيا وغيرها من الظواهر المقلقة.

    وكان من دواعي القلق عدم معرفة كيف سيصوت ناخبو الأحزاب الفرنسية الأخرى التي سقط مرشحوها في الدورة الأولى للإنتخابات. فرغم تأكيد مرشح حزب الجمهوريين اليميني فرانسوا فيلون ( حصل على خمس الأصوات في الدورة الأولى) تأييده لماكرون إلا أن استطلاعات الرأي أوضحت إن ثلث ناخبي ذلك الحزب متعاطفة مع لوبان .  كما إن المرشح اليساري المتطرف جان-لوك ميلينشون أكد مرارا أنه لن يصوت لأي من المرشحين، ودعا ناخبيه للتصويت حسب ما يمليه عليه ضميره ، الأمر الذي يفسر نسبة  التصويت العالي باصوات غير صالحة في الدورة الثانية للانتخابات. 

    فوز ماكرون والقضايا الفرنسية:

    شكلت الانتخابات الرئاسية الفرنسية الحالية هزة ارضية لأغلب الاحزاب التقليدية الفرنسية ، حيث لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية يفشل ممثلو الاحزاب الرئيسية (الجمهوريون والحزب الاشتراكي ) في إيصال مرشحيهم للدورة الثانية للانتخابات. كما هي المرة الثانية التي يفلح فيها حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف في ايصال مرشحه للدورة الثانية ( كان جان ماري لوبان قد وصل في 2002 للجولة الثانية) . وأيضاً هي المرة الاولى التي يصل فيها مرشح مستقل وليبرالي لحكم فرنسا ، خصوصا اذا علمنا ضعف التيار الليبرالي في فرنسا وقوة التيارات اليسارية واليمينية هناك، ناهيك ‘ن عمر ماكرون الشاب (أقل من 39 عاما). 

    لقد كانت نتيجة الانتخابات صفعة قوية للنخب السياسية الفرنسية التقليدية والعجوز، والتي سجلت انهيارها التام بوصول شعبية الرئيس الاشتراكي هولاند الى اقل من 10% في الوقت الذي حصل فيه مرشح الحزب الاشتراكي هامون على 6% فقط وأتى خامسا في السباق، بينما اضطر رئيس الجمهوريين ساركوزي غير المحبوب لعدم خوض السباق الإنتخابي وفشل صديقه السياسي المخضرم فيلون في الدخول للدورة الثانية حيث كانت تحاصره اتهامات الفساد المالي والتلاعب بالاموال العامة. لقد كانت النتيجة الثالثة لفيلون في تلك الظروف نتيجة مشرفة حيث كان مرشح اليسار المتطرف ميلانشون يلحق به ويكاد يتقدم عليه بعد ان كان فيلون يظن في بداية الحملة انه الرئيس القادم لفرنسا.

    هذا سيعني إعادة ترتيب للحركة السياسية الفرنسية عشية الإنتخابات البرلمانية القادمة  وبروز نجم قوى جديدة من بينها حركة ماكرون نفسه ” إلى الأمام” والتي تتخذ طابعا ليبرالياً إجتماعياً والتي يمكن أن تحصل على حوالي 25% من اصوات الناخبين وإنحسار دجور اليسار التقليدي ” الحزب الإشتراكي” مقابل اليسار المتطرف لميلانشون وحركته ” فرنسا المتمردة” فوقا عن الموقع القوي لحزب الجبهة الوطنية والذي يمكن أن يحصل على 25%-30% من الأصوات ، فيما سيحصل الجمهوريون على حوالي 20% من الأصوات، مما يعني إن ماكرون قد يجد نفسه في موقع صعب لعدم إعتماده على أغلبية برلمانية واضحة تدعمه وتدعم برنامجه الإصلاحي. 

    عموما فإن الانتخابات  اثبتت توق الشعب الفرنسي للتغيير والحاجة الى برامج واضحة وليس سياسة التلتيق والتلفيق التي دأبت عليها الاحزاب الفرنسية التقليدية وقياداتها. فما يميز كل من ماركون ولوبان هو وضوح برامجهما ( على اختلافهما). فبرنامج ماركون هو برنامج ليبرالي اصلاحي واضح على المستوى الاقتصادي ومؤيد بقوة للاندماج الاوروبي كما ان موقفه من الاجانب والمهاجرين ايجابي وكذلك موقفه العلماني واضح ( وان كان ليس متطرفا) . بينما برنامج لوبان واضح في عدائه للاجانب والاتحاد الاوروبي وهو برنامج شعبوي على المستوى الاقتصادي. ايضا كان برنامج مرشح اليسار المتطرف ميلانشون واضحا في اطروحاته اليسارية المتطرفة وعدائه للسوق الحر والاتحاد الاوروبي، بينما كان مرشح المحافظين الكاثوليكين المتطرفين ديبونت – ايغنان واضحا في اطروحاته المحافظة مما وفر له نتيجة قريبة من نتيجة مرشح الحزب الاشتراكي رغم ان حركته توجد على هامش الحياة السياسية الفرنسية. 

    في النهاية تقف تحديات كبيرة أمام ماكرون ليس أقلها الحصول على أغلبية برلمانية مريحة وانما تحرير سوق العمل وتخفيض تكلفته في فرنسا التي تسيطر عليها النقابات والتي يتوقع ان تشن حرباً على ماكرون من ايامه الاولى ، وكذلك اعادة المنافسة للاقتصاد الفرنسي وتخليصه من البيروقراطية وتدخل الدولة حيث يعتبر الاقتصاد الفرنسي أقل الإقتصاديات حرية ومرونة في أوروبا. كما على ماكرون واجب محاربة الإرهاب داخل فرنسا نفسها وإعادة اللحمة للأمة الفرنسية واستيعاب المهاجرين بشكل أفضل، بعد أن اعلن بشكل واضح ترحيبه بهم وحاجة فرنسا الى المهاجرين. 

    الانتخابات الفرنسية والوضع الاوروبي والعالمي:

    على المستوى الأوروبي والغربي فقد شكلت الإنتخابات الفرنسية حاجزاً وسداً أمام مسيرة اليمين المتطرف ببرنامجه الشعبوي والعنصري الغامض نحو السلطة في القارة العجوز. وإذا كان فوز دونالد ترامب في الولايات المتحدة وتصويت البريطانيين للإنسحاب من الإتحاد الأوروبي (البريكست) قد مد اشرعة اليمين الاوروبي المتطرف بالهواء فإنه قد تم ايقافه في هولندا قبل بضعة أشهر بفوز الليبراليين هناك ، إلا أن فرنسا قد شكلت الإجابة الواضحة على أطروحات اليمين المتطرف بإعتيار إن حزب الجبهة الوطنية هو أقوى حزب لليمين المتطرف في اوروبا وزعيمته لوبان هي الأكثر وضوحا وشهرة، لذلك يشكل فوز ماكرون صفعة قوية لليمين المتطرف في عموم أوروبا ويوضح إن قضيتي ترامب والبريكست هما امران مختلفان ولا علاقة لهما بالتقاليد الاوروبية. 

    وتبدى ترحيب الاتحاد الاوروبي بفوز ماكرون في التهنئة الواضحة التي قدمتها له انجيلا مركل واعتبارها فوزه فوزا للاتحاد الاوروبي والحلف الالماني الفرنسي داخل الإتحاد. ويتوقع أن يلعب ماكرون دورا كبيرا في الحفاظ على الاتحاد وتسريع الإندماج الاوروبي رغما عن بعض الدول التي يحكمها اليمين المحافظ حاليا مثل بولندا والمجر ، وربما يسير في اتجاه ما يسمى بأوروبا السرعات المتعددة وهو مزيد من الإندماج لاوروبا الغربية ومنطقة اليورو في مقابل اهمال للأعضاء الجدد في شرق اوروبا ذوي الميول المحافظة. 

    ويشكل فوز ماكرون هزيمة قوية لروسيا والتي وقفت واعلنت رسميا دعمها لمرشحة اليمين المتطرف بل تورط الهاكرز الروس في اقتحام ايميلات أيمانويل ماكرون. وتتخوف روسيا من سياسة ماكرون المتصلبة تجاهها وعمله على تقوية الإتحاد الأوروبي التي تعمل موسكو على نسفه والانفراد بالدول الأوروبية كل على حدة ودعمه لاستمرار فرنسا في حلف الناتو الذي تعده روسيا اكبر اعدائها ووعدت لوبان بالخروج منه. إن انتصار ماكرون هو أول تحد اوروبي لموسكو بعد سنوات من الانبطاح والعجز الأوروبي أمامها ومن سياسة الانكسار تجاه روسيا والتي كانت تقودها باريس الإشتراكية وروما والى درجة كبيرة برلين. ولا ننسى ان اكثر القوى الاوروبية تشددا تجاه روسيا هم الليبراليون  الذي يتفق ماكرون تماما مع اطروحاتهم الاوروبية والعالمية. 

    كما يتوقع أن يلعب ماكرون دوراً عالمياً أكبر وذلك بتشديده على الحرب ضد الإرهاب وفي ذلك يمكن ان نتوقع أنخراطا أكبر لفرنسا في محاربة تنظيم “الدولة الاسلامية”  وغيره من التنظيمات المتطرفة في سوريا والعراق وشمال أفريقيا ومنطقة الساحل، كما يتوقع أن تعود فرنسا بقوة للعب دورها في افريقيا خصوصا بعد ان تخلصه من العقد والأوهام الاستعمارية وتبنيه على التعاون الدولي والقيم الكونية، وهو ما فعله ماكرون بشجاعة حين اعترف في الجزائر إن احتلال بلاده لها كان جريمة كبرى في حق الإنسانية. ويعزز عودة الدور الفرنسي سياسة ترامب الانعزالية وبعده بشكل عام عن القضايا الأفريقية أو جهله بها. 

    إنتخاب إيمانويل ماكرون والقضية السودانية:

    لا تشكل فرنسا الشريك السياسي والإقتصادي الأول للسودان، لكنها واحدة من أهم دول اوروبا وخصوصا بعد الانسحاب البريطاني ، ولذلك سيكون لها دور كبير في صياغة سياسات الإتحاد الأوروبي. كما إن علاقتها بالسودان وأهتمامها بقضاياه مرشحة للتطور في ظل إنفتاحها الأفريقي المرتقب. إن فوز ماكرون المتمسك بحقوق الإنسان وصاحب الموقف الصلب ضد الديكتاتوريات سيكون ذو مصلحة كبيرة لشعب السودان، إذا أحسنت المعارضة السودانية التعامل معه. 

    كما إن فوز ماكرون يقدم نموذجا جيدا لشعوب السودان بامكانية ظهور بديل واضح عن النظام الحالي والحركة السياسية السودانية التقليدية، فقبل عام أو قل قبل ستة اشهر لم يكن احد يتوقع ان يصعد ماكرون وهو مرشح وسطي مستقل للدورة الثانية من الانتخابات وها هو قد أصبح اول رئيس خارج دائرة اليمين واليسار للدولة الفرنسية.

    انتخاب ماكرون  وغيره يعبر عن انحسار عهد الاحزاب التقليدية التي تعتمد على الايدولوجيات والشعارات والاستقطابات وبدء زمن القيادات الشابة التي تعتمد على البرامج والتواصل المباشر مع الجماهير والوضوح والمبدئية في الطرح، فهل نحظي بذلك في عام 2020م ؟ إعتقد ذلك واتمنى لشعب السودان ولنفسي مثل هذا الإنتصار الكبير وسنعمل على ذلك أطراف الليل وآناء النهار. 

  • ياسر عرمان والعمل العام

    الأستاذ  ياسر عرمان صديقي وتربطني به وشائج صداقة وعمل مشترك في الثمانينات ، كما التقينا عدة مرات في الفترة 2006-2010 حينما كان بالسودان ، ولا زلنا نحتفظ بعلاقات شخصية عبر وسائل التواصل الالكتروني والاجتماعي ، وأنا اكن له الكثير من الحب على المستوى الشخصي. وقد دافعت عنه تجاه الاتهامات الجائرة تجاهه في قضية بلل والاقرع ، كما دافعت عنه عندما عزلته حركته في فترة ما وذهب لامريكا “للدراسة”، قبل أن يعود لمواقعه في قيادة الحركة الشعبية ، وقبل أن يصبح الرقم الأول ” عمليا”في الحركة الشعبية – شمال بل وفي عموم الجبهة الثورية (جناح عقار).

    ياسر عرمان وتمجيد الشمولية

    ورغم اختلافي الفكري والسياسي الكبير مع نهج الأستاذ ياسر عرمان إلا اني كنت أفضل الصمت وعدم انتقاده علنيا ، وذلك حفاظا على وحدة قوى الجديد والتغيير في السودان. لقد انتقدت القوى القديمة باعتبارها المسؤولة الاساسية عن الازمة السياسية والاجتماعية في السودان، وقلت ان الانقاذ ما هي الا تجسيد كثيف لكل نهج السودان القديم البالي. من هذا المنطلق كنت اترفع عن انتقاد قوى الجديد سواء ان كانت من القوى الحزبية والشبابية  المدنية او القوى العسكرية ، إلا أن يجبرني حدث جلل على ذلك.

    ومن الأحداث الجلل ان يكتب قائد سياسي ورجل يتوهم فيه بعض الناس أن يكون وحركته هو البديل مقالاً في تمجيد دكتاتور اذاق شعبه العذاب وبنى نظام حزب واحد وظل حتى مماته متمسكا بايدلوجية شمولية كريهة عذبت وابادت الملايين – ذلك الدكتاتور هو فيديل كاسترو الذي يظل نظامه من بين انظمة قليلة في العالم الاشد شراسة في التعامل مع مواطنيه ومع الحريات. ان العالم كله ينحو نحو الديمقراطية وحتى الأنظمة الممعنة في القمع تحاول ان تدعي لنفسها مسوحا ديمقراطية مثل النظام السوداني او النظام الايراني او النظام الروسي الخ – ولكن نظام كاسترو مع نظام كوريا الشمالية متفردان في احتفاظهما بنظام قمعي شمولي كامل الدسم وحزب واحد أحد لا شريك له ، كما تفنن النظامان “الشيوعيان” في خلق ملكيات بلشفية حيث يرث الإبن أباه في قهر الناس كما في كوريا وحيث يرث الأخ أخاه في قهر الشعب كما في كوبا.

    لقد ازعجني من قبل ما قيل من تعليق الأستاذ ياسر عرمان في فترة حكمهم المشترك مع المؤتمر الوطني لصورة كريس هاني في مكتبه . وكريس هاني لمن لا يعرفه كان السكرتير العام للحزب الشيوعي لجنوب افريقيا ، أكبر احزاب افريقيا الشيوعية ستالينية وتحجرا . وكنت قد تسائلت في نفسي لم يجاهر الأستاذ ياسر عرمان باعلان انتماءه وتمجيده لأكبر الستالينين ؟ مع ذلك فقد بلعتها وقلت ربما تكون اعجابا شخصيا وكلٌ حر في تعليق صورة من يحب . ولكن أن يكتب الأستاذ ياسر عرمان مقالا في تمجيد سفاح كوبا وأحد اكبر الشموليين طراً في القرنين العشرين والحادي والعشرين دون أن يطرف له جفن، فهذا أمر يتعدى مرحلة الاعجاب الشخصي الى ان يتصل بقضية العمل العام ومستقبل السودان واي نموذج تريد أن تقدمه لنا الحركة الشعبية لحكم سودان المستقبل .

    الشمولية وقضايا السودان

    ان شعب السودان اليوم يناضل ضد ديكتاتورية حزب واحد وإن تخفى بزي ديمقراطي بائس كاذب وجمع حوله احزاب التوالي وبائعي الضمير ، كما يناضل ضد دكتاتور خرف جهلول افسد في بلادنا وسفك الدماء ولا يزال. فأي نموذج وأي بديل يطرحه الأستاذ ياسر عرمان لشعبنا وشبابنا واي مصداقية يملكها للحديث عن الديمقراطية والحرية وهو يمجد دكتاتورا حكم بشكل مطلق لنصف قرن ثم لما اصابه الإعياء سلم الشعب الكوبي والوطن الكوبي كالضيعة لأخيه الجهلول ؟ وأي ديمقراطية وحرية يدعو لها الأستاذ ياسر عرمان وهو يمجد نظاما للحزب الواحد ممعن في قمعه ودمويته وبشهادة كل منظمات حقوق الانسان ؟

    لقد استغرب الكثيرون انسحاب الأستاذ ياسر عرمان في عام 2010 من السباق الانتخابي ، رغم دعم ملايين الناس له . وثارت تكهنات عديدة حول اسباب ذلك واتهم الكثيرون الحركة الشعبية بسحبه، حتى اتضح إن الأستاذ ياسر عرمان هو من سحب نفسه وجعل بعض مؤيديه يبكون دما ( حرفيا) . إن انسحاب الأستاذ ياسر عرمان قد تم وفق منهج سياسي اعلنه في مقال مطول الحاج وراق عن ضرورة إجهاد النظام بحرب ساخنة في الاطراف ، وهذا ما فعله الأستاذ ياسر عرمان بعدها بعام في معارك 6/6 التي لا تزال مستمرة حتى اليوم. ان هذا يثبت إن الأستاذ ياسر عرمان لا يريد طريق النضال الجماهيري وانما الطريق الكاستروي للوصول الى السلطة ، ولا يطمح في الديمقراطية الليبرالية وانما في نظام مثل نظام كاسترو.

    لا ننسى هنا ان كريس هاني المشار اليه اعلاه لم يكن فقط السكرتير العام للحزب الشيوعي لجنوب افريقيا، وانما كان ايضا القائد العسكري لتنظيم “اومكونتو وي سيزوي” او “رمح الامة” ، وهو التنظيم العسكري للمؤتمر الوطني الافريقي.  وكانت جماهير المؤتمر الوطني الافريقي تهتف وترفع الشعارات إبان الخلافات مع حركة انكاتا  التي تقول: ” هاني اعطنا سلاحا لنقتل اعدائنا ” (Hani give us weapons to kill our enemies) . وإن كان هاني في آخريات حياته وقبل اغتياله قد سار في طريق الاعتدال وترك طريق  الحرب،  فهل يمكن أن يتم هذا للأستاذ ياسر عرمان؟!

    ان قراءة سريعة وعابرة لمواقف الأستاذ ياسر عرمان وعلاقته الغامضة مع الحزب الشيوعي السوداني ، والتي تجلت في لقاءاته السرية مع محمد إبراهيم نقد، بل وفي مجمل علاقة الحركة الشعبية مع ذلك الحزب الذي غذاها بالكثير من الكوادر ، وانسحابه من المعركة الانتخابية وخذلانه لملايين الناس فيها، وعودته مرة اخرى لسكة الحرابة في 6/6 وفقا للسيناريو الذي كان قد اتفق حوله مع الحاج وراق، مع ما سببه ويسببه هذا السيناريو من آلام وعذابات لاهلنا في جبال النوبة وجنوب النيل الازرق ، ثم تمجيده لدكتاتور كوبا ونظامها القمعي الارهابي الشمولي، وما رشح من ممارساته غير الديمقراطية في الحركة الشعبية بل والجبهة الثورية مما وثق جزءا منه استاذنا أبكر آدم اسماعيل ، يجعلنا نتسائل أي بديل يعده الأستاذ ياسر عرمان لشعب السودان، وهل نطيح بنظام الإنقاذ لنستبدله بنظام كاسترو ؟ اذن لقد فشلنا فشلا ذريعا وخسرنا خسرانا مبينا .

    ياسر عرمان والإرث الشيوعي

    ان البعض قد يفسر مقال الأستاذ ياسر عرمان في تمجيد سفاح كوبا ودكتاتورها الاول أنه مجرد رد جميل وعرفان لرجل دعم الحركة الشعبية لتحرير السودان وكان ذو علاقة بها، وذلك وفق التفاصيل التي ذكرها الأستاذ ياسر عرمان في مقاله، واخرى نعلمها ولم يذكرها. المهم وغض النظر عن تحليل تلك العلاقة وذلك الدعم والمصالح الكوبية فيهما، وغض النظر عن تحليل مجمل الدور الكوبي في افريقيا وهو دور مثير للجدل وليس مضيئا كما يحاول ان يصوره الأستاذ ياسر عرمان وجموع الشيوعيين والشموليين، فكيف لا ينبس الأستاذ ياسر عرمان ببنت شفة عن إن نظام كاسترو شمولي قمعي يذبح ويقهر شعبه صباحا ومساءا، وكيف يتحدث الأستاذ ياسر عرمان عن “ايجابيات” بطله وحبيبه هذا بشكل مسهب ، ويذكر وجود أخطاء ومسالب بشكل مجمل ومبتسر ، ناسيا ان الشمولية ونظام الحزب الواحد وقتل المخالفين في الرأي وسجنهم وقهر الشعب وتكميم الافواه ليست اخطاء وانما هي جرائم ضد الانسانية وضد الشعوب؟

    كما يذكر الأستاذ ياسر عرمان دانيال اورتيغا وتنظيم الساندينستا في مقاله، دون أن يوضح لجموع القراء ان دانيال اورتيغا قد تحول الى ديكتاتور يميني يمارس تجارة الدين ويقمع نساء نيكاراغوا وشعبها بلا هوادة ، وانه حتى لم يعد ذلك اليساري الذي كان. كما يتناسى الأستاذ ياسر عرمان نقطة مهمة جدا ومحورية في تقييم النظام الكوبي لأي سوداني، وهي دعم نظام كاسترو لنظام الانقاذ طوال ال 20  سنة السابقة في الامم المتحدة . فقد كانت كوبا الكاستروية في زمن فيديل وفي زمن راؤول تصوت دائما وباصرار دعما للسفاح البشير ونظامه، وتكسر طوق الحصار المفروض عليه، فهل نسى الأستاذ ياسر عرمان ذلك ام تناسى ، وهل اعمته الايدلوجية والحب للشموليين والمغامرين العسكريين وقاهري الشعوب عن مصالح شعب السودان، وهو ما يجب ان يكون محط اهتمامه الأول ؟

    إن الأستاذ ياسر عرمان بعد تحليل كل مواقفه واستراتيجياته وكتاباته، يبدو لنا كشيوعي ستاليني يؤمن بنهج العمل العسكري المسلح طريقا للوصول للسلطة ولا شيء سواه. إن الرجل في الألفية الثالثة يمجد انظمة وقادة قمعوا شعوبهم دون رحمة ، ولا يجد كلمة تعاطف واحدة مع شعوبهم. إن تعاطف الأستاذ ياسر عرمان مع حزب المؤتمر الوطني الافريقي في جنوب افريقيا الذي يقوده الشيوعيون، بكل ما مارسه ذلك الحزب في دعم النظام السوداني وما يمارسه من فساد ، وتمجيده لفيديل كاسترو ونظامه، يوضح أي بديل يملكه الأستاذ ياسر عرمان ( وحركته) لشعب السودان. فما هو موجود في كوبا نظام همجي شمولي بغيض،  ونحن لا نحتاج للخروج من جحيم الانقاذ لندخل في سعير الكاستروية، او حتى في نظام شبيه بنظام حزب هاني وزوما في جنوب افريقيا.

    الخطاب العاطفي وحق الشعب السوداني

    ان السياسي انسان مثله مثل اي شخص، وهناك مؤثرات عاطفية تؤثر عليه. لذا فانا اتفهم ان يكون الأستاذ ياسر عرمان في صباه ومطلع شبابه متأثرا ب”الألق” الثوري لجيفارا وكاسترو وكابرال وغيرهم من مغامري الحرب الباردة ومن ابطال اليسار . لكن الأستاذ ياسر عرمان لم يعد طالبا او يافعا، وانما هو قائد سياسي ينظر له الناس ولحركته كبديل، ويجب ان ينضج الأستاذ ياسر عرمان وأن يتخلى عن افكاره القديمة وعن مشاعره الفجة غير الناضجة وعن ولهه بالاشخاص وترديده للاشعار الثورية التي كان يرددها في الاركان.

    على الأستاذ ياسر عرمان ترك هذا الخطاب العاطفي الشعاراتي البائس ليدخل عميقاً في تحليل الانظمة الاجتماعية ، وفي تحديد المصالح الاستراتيجية لشعب السودان واين تقع، وفي تحديد التحالفات الداخلية والخارجية التي يمكن ان تنفع شعبنا، والتي قطعا لا توجد في جانب اليسار الشيوعي الستاليني المتكلس، احزابا كان ام انظمة. إن فعل ياسر عرمان هذا عددناه من قادة الجديد، وان لم يفعل وواصل نهجه العقيم فلن يجد تصنيفا إلا انه من قوى القديم.

    إن شباب السودان وشعب السودان وهو يناضل بالدمع والعرق والدم ضد نظام الانقاذ الدموي ، مطالب في نفس الوقت بإسقاط كل الاوهام والاصنام والمشاريع الشمولية ولو لبست مسوح الجديد. إن دماء الشهداء كلهم، سواء كانوا شهداء النضال المدني او شهداء الخيار العسكري، تصرخ فينا وتنادينا أن لا نهدر تضحياتهم عبثا، وأن تكون ثورتنا ثورة تغيير شاملة ، والا نسمح لشمولي آخر أن يستولى على بلادنا من جديد. في هذا الطريق سنسير ونجهر بالرأي ، حتى لو كان تجاه أقرب الحلفاء او الاصدقاء، لأن هذا ما يمليه علينا الواجب والضمير .

    الا هل بلغت ؟ اللهم شعبي فأشهد .

    7/12/2016م

  • موت فيدل كاسترو وانفضاح عورة الشيوعيين

    مقدمة:

    رحل قبل أيام الطاغية فيدل كاسترو فأتضحت عورة  الشيوعيين في مهرجانات الرثاء والتعزية التي اقاموها له في مشارق الأرض ومغاربها وعلى صفحات مواقع التواصل الإجتماعي؛ مرددين الأكاذيب والأساطير عن واحدا من اكثر طغاة الأرض عنفا وتسلطا ، ومزيفين وعي الافراد والشعوب بفيروسات فكرية وسياسية ينشرونها؛ كنا ظننا انهم انفسهم تعافوا منها؛ ولكن يبدو ان عطار العصر لا يصلح من حال الشموليين الذين افسدهم منهجهم والدهر.

    لقد  باركنا للشعب الكوبي رحيل فيديل كاسترو ؛ فقد كان الرجل واحداً من اسؤا طغاة الارض .  كان الشعب الكوبي اول شعب يموت في الزوارق هربا من جحيم كاسترو  ولا يزال . مات الآلاف من الكوبيين تحت التعذيب ودخل عشرات الآلاف منهم  السجون وهرب ملايين من ذلك الجحيم تحت ظل ذلك النظام القهري البغيض. إن  كوبا تظل واحدة من دول العالم القليلة التي يحكمها حزب واحد صرفا ، مثلها مثل كوريا الشمالية  لا تدعي حتى ديمقراطية شكية كما في ايران او السودان او روسيا البيضاء.

    لقد قمع النظام الكوبي شعبه بالحديد والنار ؛ وتشهد على ذلك كل تقارير منظمات حقوق الانسان كما يشهد عليها ملايين الكوبيين المهاجرين وحالة الرعب التي يعيشها الناس في تلك الجزيرة المبتلاة. واذا كنا في السودان نشتكي من اجهزة الامن والجنجويد وشرطة النظام العام وغيرها من ادوات القمع ؛ فإن الشعب الكوبي يُرهب بلجان حماية الثورة شديدة القسوة والعنف. ومن المثير للسخرية ان الرجل الذي يتحدث عن حكم الطبقة العاملة وعن الشيوعية  سلم السلطة لأخيه بعد ٥٥ عاما من حكم الفرد –  فكان ان شهدنا الشيوعية الوراثية والملكية البلشقية في اسؤا صورها وابشعها واكثرها شناعة وهزلية.

    التبريرات الفجة:

    لقد شهدنا العشرات من التبريرات الفجة للتباكي على نهاية ديكتاتور سفاح. والتبريرات للشمولية ساذجة حتى ان حاولت أن تلبس مسوح  العمق الفكري . كما إن هذه التبريرات يكتنفها التناقض – فكيف تتباكون على الديمقفراطية والحرية في السودان أو اي بلد آخر وتباركون قمعها في كوبا ؟ وكيف ترفضون نظام الحزب الواحد او حتى هيمنة الحزب الواحد في بلتدكم وتمجدونه في كوبا . الحق أقول كل من يدافع عن الشموليات وعن الطغاة وعن نظام الحزب الواحد وعن حكم الفرد وعن توريث الحكم ويريد ان يأتي لي عم انه يناضل من احل ديمقراطية وتعددية وحقوق انسان وتداول سلطة ، عليه ان يراجع الطبيب النفسي لعلاج تناقضاته

    وقد عابنا البعض أننا ننقد كاسترو خارج “السياق”؛ لأننا ننطلق من مفاهيم كونية او كما قال مستوردة . وقد رددنا انه لا عيب في تبني قيم كونية ؛ وأن السياق لا يجب أن يكون مبررا للجريمة . وقلنا أن هناك قيم كونية منذ فجر التاريخ ومنذ فجر الانسانية كانت دائماً صائبة ولا تزال صائبة – مثلا قيمة حرية الانسان هي  مبدا كوني وسليم ، وقيمة كرامة الانسان هي مبدا كوني وسليم  آخر ، ومبدا العدالة الاجتماعية مبدا كوني وسليم . هذه كلها مبادئ كونية ظلت الانسانية ولا تزال تصارع من اجلها – في العصور المختلفة تجلت هذه المبادئ باشكال مختلفة لكن طابعها الكوني ثابت لا ينكره الا الشموليون والطغاة ، ولن يغير من كونية وصحة هذه المباديء لو انتهكها سفاح أسمة كاسترو او مجنون أسمة بوش او ما كارثي .. كما لن يغير منها اي تبرير ساذج باسم الظروف والحصار والإمبريالية او الخطر الشيوعي او الاسلاموي او الإرهاب الخ

    كما دافع البعض عن كاسترو ونظامه أنه بنى نظاما مجانيا للتعليم والصحة . والحقيقة انه اذا صدقنا هذه الفرية فأنها ليست تبريرا كافيا للجريمة؛ فقد بنى هتلر في الثلاثيانات  نظاما أفضل للتعليم والصحة والتشغيل الشامل والضمانات الاجتماعية؛ فهل هذا مبرر لجنونه وتسلطه ؟ وهل يبيع الناس حريتهم وكرامتهم مقابل التعليم والصحة ؟ إن  الصحة والتعليم هي حقوق ثابتة للناس ويجب أن تكفل لهم كحقوق طبيعية وانسانية ؛ وقد اوردتها الامم المتحدة في حزمة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية ؛ كما تقدمها بشكل ممتاز دول الديمقراطية الليبرالية في اسكندنافيا وعموم اوروبا؛ ولم نجد من مهووسي الشيوعية تمجيد لها. بل ان بعض الدول الظلامية والرجعية تقدم هذه الحقوق بأكثر مما قدمها كاسترو بل وتبتعث مواطنيها للدراسة والعلاج بالخارج على حساب الدولة ؛ فهل يغير هذا شيا من طبيعتها القهرية والرجعية واللا انسانية ؟

    والشاهد ان حال التعليم والصحة كما كل الخدمات الاخرى في كوبا مزر بئيس.  والشاهد انه هناك قطاع خاص ومستشفيات خاصة يتعالج فيها الاجانب بالدولارات وفي افضل الظروف التي لا تتوفر للمواطن الكوبي.  والشاهد ان الاقتصاد الكوبي منهار وانه لولا الدعم السوفيتي والروسي سابقا والفنزويلي حاليا لما كان قادرا على تمويل اي خدمة – على علاتها – . والشاهد ان حال الشعب الكوبي لمن عايشه ورصده يغني عن المقال.

    فرية التدخل الاجنبي مبررا للقمع :

    ويدافع بعض المبرراتية  عن إجرام كاسترو وتعذيبه لشعبه تحت مبرر الحصار الامريكي. و اقول أنه اذا دافع شخص عن تجربة سلفادور الليندي رغم أخطائها الاقتصادية والسياسية وعن محاربة امريكا لها سأتفق معه ،  لانها كانت تجربة ديمقراطية غض النظر عن رأينا فيها . أما إذا دافع لي شخص آخر عن شافيز رغما عن حماقاته و اوتقراطيته ساتفهم ذلك ،  لأن الرجل حافظ على انتخابات ولو شكلية . أما  السفاح فيدل كاسترو فقد بنى منذ البدء نظاما شموليا قمعيا للحزب الواحد او قل حكم الفرد – نظام قمعي وحشي حرم الناس من اهم ما يطلبون وهو الحرية والكرامة الشخصية/ وكان هذا غرضه ونموذجه المفضل منذ البدء  بينما كان التدخل لاحقا . اذن فإن التدخل ليس مبررا ولا هو خاص بكويا؛ فل الديكتاتوريات والشموليات في العالم تتتحج بالعدو الخارجي والحصار حتى تمارس عدوانها على شعبه.

    والشاهد ان العالم كله يتضامن مع الانظمة الديمقراطية التي يتم اسقاطها بمؤامرات خارجية او تتعرض لتدخلات ؛ مهما كان التدخل امريكيا ام شيطانيا – اما الانظمة التي تأتي للسلطة بالقوة والعنف وتحكم شعبها بالقوة والعنف وتستخدم فزاعة التدخلات الخارجية للتبرير لطبيعتها القمعية الاجرامية مثل نظام كاسترو ؛ فهي لا تعدو ان تكون انظمة قمعية شمولية كاذبة ومراوغة ؛ ومن يدافعون عنها من “المناضلين من اجل الديمقراطية” لا يكونوا الا متناقضين في افضل الاحوال او شموليين مدافعين عن الاجرام في التفسير الغالب.

    ويبرر الشموليون جرائم كاسترو بالتدخل الامريكي ضده وما يسمونه بالتآمر الغربي عليه. وحقيقة أنه لقد ارتكبت الدول الغربية الكثير من الجرائم بدءا من الاستعمار لتجارة الرق للعبودية للتفرقة العنصرية لدعم الأنظمة اليمينية الخ – هذه لن ينكرها الا جاهل او مؤدلج  كما ان  النظام الغربي برمته يخضع لصراع شديد وديمقراطيته لم تكتمل وفي اغلب تجاربها مشوهة وقاصرة ، ذلك ان هناك أعداء للحرية من اليمين واليسار داخل الأنظمة الغربية يحاولون تحريفها لأشكال بائسة واستغلال كامل النظام ضد الانسان والمباديء الكونية دي ذاتا – اليمين المتطرف واليسار الشيوعي نماذج حية لهذه القوى الخطرة السامة التي توجد في النظام الغربي – وفي نظامنا السياسي السوداني أيضاً – لكن الصراع في الغرب محتدم ولم يحسم بعد ، وهذا عموما نقاش مطول حول أزمة النظام الغربي وجرائمه وصراعاته وسلبياته وايجابياته ، ولكن ما دخله بالدفاع عن سفاح طاغي حكم بلده بالحديد والنار طوال ٥٥ عاما وتحت حزب واحد احد وايد لوجبة واحدة ثم سلم السلطة كالمزرعة والشعب كالسعية لأخيه ؟

    وقد برر البعض اجرام كاسترو ونظامه القمعي بالتدخل الامريكي في الدومينكان عام 1965. والحقيقة إن تدخل الولايات المتحدة في الدومينيكان لم يكن لاسقاط حكومة منتخبة .  والولايات المتحدة  بكل جبروتها لا تجرؤ للتدخل ضد نظام منتخب لاسقاطه لان هذا سيعرض الحكومة الامريكية للمسائلة وفقا للدستور الامريكي؛ لكنها تتدخل عسكريا ضد الانظمة الانقلابية او في حالات الحرب الاهلية؛ كما يمكن ان تضايق او تدعم انقلابا عسكريا ضد نظام منتخب كما فعلت في شيلي لكنها لا تجرؤ للتدخل الاحتلالي في تلك الحالة . ما تم في الدومينيكان هو العكس؛ فقد انقلب انقلابيون على الحكومة المنتخبة واندلعت حرب اهلية وتدخلت الولايات المتحدة بعد فترة من بدء الحرب الاهلية ووقفت مع الموالين للسلطة الشرعية ؛ وبعد عام انسحبت القوات الامريكية وقوات منظمة الدول الامريكية وتم تنظيم انتخابات حرة في جمهورية الدومينكان.

    كاسترو ودعم افريقيا:

    وقد زعم البعض اننا يجب ان نمجد كاسترو لأنه دعم افريقيا وناضل من اجل استقلال انغولا وغيرها؛ وصدقوا فرية ما يسمي بالتدخل الاممي الكوبي. ونقول هنا إن التدخل الكوبي في افريقيا انه كان جزءا من الحرب الباردة التي إدارتها كل من امريكا والاتحاد السوفيتي في افريقيا وتضررت منها افريقيا اشد الضرر ولا يمكن ان يذكرهما اي قومي افريقي الا بكثير من المرارة والغضب. أما  التدخل في أنغولا فقد تم بعد استقلال أنغولا وكان لحماية النظام الشيوعي فيها وليس تدخلا للحصول على استقلال أنغولا – وقليل من قراءة التاريخ لا يضر .

    أما التدخل  الكوبي في اثيوبيا فقد كان كان تدخلا سافرا في صراع بين دولتين إفريقيتين، والغريب أن سياد بري وقتها كان اكثر شيوعية ويسارية ؛ ولكن مصالح موسكو حينها رأت الوقوف مع نظام الدرق  الاثيوبي ؛ واستخدمت لذلك الذراع العسكرية  الكوبية . كما ان نظام كاسترو  لم يتورع عن دعم النظام الإثيوبي حتى في سحق المعارضة اليسارية والماركسية – أيضاً قليل من دراسة التاريخ لا يضر .

    إن من مهازل الأنظمة الشمولية انها تهزم نفسها بنفسها؛ فبعد انتهاء التدخل الكوبي في افريقيا تمت  اكثر ضباط الجيش الكوبي احتراما وحبا في الجيش والمجتمع ممن شاركوا في معارك انجولا ؛ ومن بينهم من أخذوا أوسمة ” ابطال الثورة ” تمت تصفيتهم في محاكمات شكلية مزرية كانت محاكمة الجمهوريين في السودان اكثر عدالة منها ، ولا تزال فيديوهات تلك المهزلة في اليوتوب ، وذلك لان هؤلاء طالبوا بالإصلاحات ، فتأمل في حال السفاح كاسترو وتأمل في حال من يدافعون عنه.

    أن المتابع يمكن أن يجدد عدد من الفيديوهات في اليوتوب عن تلك المحاكم المهزلة وعن تلك التصفية القبيحة والاعترافات التي تذكرنا باعترافات بوخارين وكامينيف وزينوفيف او اعترافات وانكسار الجمهوريين بعد اعدام الاستاذ – ويقول ليك لم يكن عدوا للحريات – بل كان سفاحا طاغية سنيحا قبيحا عليه اللعنة وعلى أخيه السفاح الطاغية المستبد. ولقد كان السفاح راؤول كاسترو هو المدعي العام غير الرسمي في تلك المجزرة وكشف الأسباب الحقيقية للتصفيات لأكبر قائد في الجيش ولوزير الداخلية ان الاول انتقد القرارات العسكرية كما كشف السفاح فيدل كاسترو تلك الأسباب عندما قال ان “خيانتهم ” تمثلت في تشكيكهم بالدور القيادي للحزب الشيوعي وان إعدامهم كان تحذيرا للآخرين – اما كل قصة المخدرات والخيانة المزعومة فقد كانت مهزلة.

    كاسترو وتمجيد الشيوعيين السودانيين :

    لا  استطيع ابدا ان اصدق الشيوعيين السودانيين والمتآثرين بهم ورفاق طرقهم انهم يناضلون من اجل الديمقراطية وحقوق الانسان وتداول السلطة الخ وهم بعد ربع قرن من انهيار انظمة القهر في اوروبا الشرقية وافتضاح سوئتها وهم يدافعون عن ديكتاتور كوبا وعن نظامها القمعي الذي تبدو جرائم وممارسات الانقاذ مقارنة به مجرد لعب عيال . لا يمكن ابدا ان نبني ديمقراطية في بلادنا وان نبحث عن الحرية والكرامة لمواطنينا ولنا ونحن نمجد سفاحي الشعوب وديكتاتورييها وقامعي حرياتها وكرامتها تحت شعارات زائفة صدئة اتضح زيفها وخطلها وبهتانها.

    كما ان المنطق البسيط يقول ان شعب السودان وناشطيه لا يجب ان يمجدوا فيديل كاسترو . ففيدل كاسترو ونظامه دعما نظام الانقاذ منذ 25 عاما في المحافل الدولية وصوّت  النظام الكوبي دائما ولا يزال يصوت لصالح البشير فتأمل – هؤلاء الناس الذين يمجدون كاسترو من الواضح انهم  قد غيبوا عقولهم وضمائرهم وتملك منهم الوهم فلا غرو ان تبكوا على رحيل ديكتاتور بغيض عجوز .

    خاتمة:

    اخيرا اقول اننا في نقدنا لكاسترو ومباركتنا للشعب الكوبي رحيل هذا الطاغية فإننا لا  نشمت او نبارك موت انسان عادي صالح لاهله ومحيطه وانما باركنا موت ديكتاتور اصطلى منه شعبه العذاب ولا يزال يصطلي من اخيه الطاغية .  المؤسف حقاً في الامر ان الرجل لم يسقط في حياته وانما عاش كديكتاتور ومات كديكتاتور محاطا بعبادة الشخصية بينما يقبع معارضيه الشرفاء في القبور او المعتقلات. ما قدمه فيديل كاسترو لشعبه هو العذاب وما مارسه لم تكن أخطاء كأخطاء اي سياسي بل هي جرائم ممنهجة في ظل نظام حزب واحد قهري، نتج عنه عبادة فرد وتوريث الحكم في العائلة و اعدامات بالجملة  وانتهاكات فظيعة لحقوق الافراد والشعب الكوبي؛ ونتج عنه تحطيم تام لكل الحريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كوبا و تفسخ اجتماعي يزيد عن تفسخ الانقاذ علمه كل العالم الا من انكشفت عورته من الشيوعيين.

     

    عادل عبد العاطي

    6/12/2016م

  • عبد الله علي إبراهيم ورد الإعتبار للأستاذ عوض عبد الرازق ( 3 من 3)

    اوضحنا في الحلقتين السابقتين منهج عبد الله علي ابراهيم في الانحياز لممارسات الحزب الشيوعي في اغتيال شخصية المتميزين والنابغين والمختلفين ، وقلنا ان هذا المنهج هو جزء من انحياز ع ع  ابراهيم للسلطة عموما ، سواء كانت سلطة سياسية او اجتماعية او معنوية . ونحن نرى في  ع ع ابراهيم “موظفا” سلطويا بامتياز ، فهو لا يزال يمارس دوره كموظف ثقافي او قل دعائي للحزب الشيوعي ولاطراف السلطة الابوية السائدة في السودان ، مثله مثل السر بابو تماما ، ولا غرو –  فالرجلان متشبعان بالمفهوم اللينيني لوضع الثقافة في خدمة السياسة او الحزب ، والحزب الشيوعي اليوم اصبح احد اعمدة السلطة الابوية المنسلطة في السودان ،  وفي كل هذا لنا رجعة ورجعات.

    وقد قلنا ان ع  ع ابراهيم نفسه مارس دوره في التشنيع على الاستاذ عوض عبد الرازق وترديد ترهات الحزب الشيوعي عنه ، من شاكله انه دعا الى حل الحزب الشيوعي وتحويله لجناح في الاحزاب الاتحادية ، او انه دعا لدراسة الماركسية بمعزل عن الواقع. وقد اسهم نشر تقرير عوض عبد الرازق مؤخرا في نسف كل هذه الاكاذيب ، واثبات عبقريته السياسية التي قُتلت تحت حوافر وخناجر الاستالينية البغيضة. وقد ساهم استاذنا صديق عبد الهادي في كشف شيء من هذا التزوير التاريخي وإثبات أن بعض هذه الاتهامات هي خارج السياق التاريخي اصلاً في مقاله المهم الموسوم ” لا مناص من النقد الموضوعي: السر بابو وتجربة الخاتم عدلان مثالاً ” والذي يكشف فيه بعض مغالطات وتجني الحزب الشيوعي على الرجلين العظيمين في تاريخه : عوض عبد الرازق والخاتم عدلان.

    وقد تواصلت مساهمة ع ع  ابراهيم في مسيرة  التشويه والتعريض بالاستاذ عوض عبد الرازق ( وع ع ابراهيم له غرام خاص بمهاجمة الموتى ) في مقاله بعنوان ” ودا كلو من تحت دقنوس كلنج أب صلعة: ألحقنا يا راشد” وهو مقال ضعيف يشبه كتابات عوام الحزب الشيوعي ، ومليء بالمغالطات وعبادة الفرد وتشويه الحقائق.  ولا غرو في كل ذلك فكما قلنا فإن الرجل قد خسر دوره كمثقف وتحول الى عرضحالي خرف يكتب كل شيء لتكبير دوره ومعالجة تشرخات روحه بعد بيعه لها للسلطان ، وتغطية “خياسته” الفكرية والسياسية بادعاء ثورية زائفة وبلشفية مشوهة، مستفيدا من كرم السودانيين وترفعهم عن مواجهة امثاله، فبئس الطالب والمطلوب.

    يقول ع ع ابراهيم : ((كان من وراء الزخم السياسي الثوري والتنظيمي الحداثي الذي عرضنا له في “المنارات التي شيدها اول مايو” شاب في سنه الثانية والعشرين هو أستاذنا عبد الخالق محجوب (ميلاد سبتمبر 1929 وتولى سكرتارية الحزب من عوض عبد الرازق على نهج جديد في 1949). لم يصطنع الجذرية (وما كان له) التي كانت تسوق الناس سوقاً للنضال مواجهة ضد الاستعمار. ولكنه شم عبيرها العبق واتفق له أن يدفقها على سياسة السودان عبر تنظيم جديد هو الحزب الشيوعي فارزاً كومو من الحركة الاتحادية التي انطوى في أكنافها مجرد جناح يساري من قبل))[i]

    مرة اخرى يردد ع ع ابراهيم تخرصات الشيوعيين ان عبد الخالق محجوب قد اختط نهجا جديدا وان قيادة عوض عبد الرازق قد جعلت الحزب مجرد جناح يساري للحركة الاتحادية. والحقيقة ان كتابات عبد الخالق محجوب نفسه تؤكد كذب تلك التخرصات. فالاتهام بوضع الحزب ( الحركة السودانية للتحرر الوطني في الحقيقة ) قد وجهت في الاصل للدكتور عبد الوهاب زين العابدين عبد التام ، وعلى اساسها تم خوض الصراع ضده في صيف 1947 عند رجوع عبد الخالق والتجاني الطيب من القاهرة في الاجازة الصيفية. وقد كان الصراع في الحقيقة بين المؤسسين للحركة في السودان وتيار “اولاد هنري كوريل” القادمين من القاهرة. وفي هذا الصراع تم ابعاد عبد الوهاب زين العابدين وتم صعود عوض عبد الرازق وعبد الخالق وجناحهم للجنة المركزية وعملها تحت قيادة عوض عبد الرازق ((مؤقتا)) بعد عودة عبد الخالق محجوب للقاهرة.

    وخلال الفترة بين صيف 1947 وبداية 1949 قاد عوض عبد الرازق الحركة وانجز الكثير من الانجازات التي عددها في تقريره ، والتي اكدها عبد الخالق محجوب في كتابه ” لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي” حيث ذكر من بينها (( تحرر الحزب من نفوذ التقليدية القديمة وسلك طريقه المستقل في تنظيم الجماهير)) ((ارتبط الحزب مباشرة بالطبقة العاملة واسس فروعه الثابتة في عطبرة وفي الخرطوم بحري)) ((وضع الحزب دستوره الذي يشمل النضال ضد الاستعمار وحق الشعب السوداني في تقرير مصيره واصبحت له الجراءة في نقد وجهة نظر الاحزاب الوطنية الاخرى)) ((اسس الحزب أول اشكال اتصاله الثابت بالجماهير فاصدر اول منشورات مطبوعة في السودان)) (( وضع لائحة تحدد العلاقة بين الافراد والهيئات محل العلاقات الشخصية)) (( بدأ الحزب لأول مرة في اصدار مجلة داخلية لتطبيق الماركسية على واقع بلادنا)) وباختصار (( ان اللجنة المركزية الجديدة وضعت الاسس لقيام الحزب وتطوره)) [ii]

    ويمضي عبد الخالق اكثر ليقول ان تلك اللجنة والتي عملت لحوالي عامين تحت قيادة عوض عبد الرازق حلت مشاكل هامة (( على رأسها مشكلة التحالف مع الراسمالية الوطنية في النضال ضد الاستعمار الاجنبي)) و(( أقر الحزب مبدأ التحالف مع الراسمالية الوطنية مع الاحتفاظ بالاستقلال الكامل للحزب في تنظيم الجماهير وقيادة نضالها)) واستطاع الحزب (( أن يوسع من الحركة الجماهيرية ويلهب النضال ضد الاستعمار))  وذكر امثلة لنجاعة هذا الخط كعمل الجبهة الوطنية بمدينة الخرطوم بحري واخراج اول مظاهرة في صيف 1948 من نادي الاتحاديين (( متعاوناً مع الاقسام الاكثر ثورية من الراسمالية الوطنية)) مما ادى لمقاطعة واسقاط الجمعية التشريعية .[iii]

    إذا كان الأمر كذلك ، فلماذا يزعم عبد الله علي ابراهيم في نفس المقال ((وصار عوض عبد الرازق الذي تمسك بوجودنا كجناح يساري في الحركة الاتحادية البطل المضاد لأستاذنا عبد الخالق محجوب الذي قال إن علينا أن نستقل بحزبنا ونطرق باب الجماهير من تحت رايتنا المستقلة (العبارة المفضلة). وكان هذان الموقفان المتباينان مدار الخلاف في الحزب الذي ساق في النهاية إلى انقسام 1951 بين بلشفيك (الروسية للأغلبية) عبد الخالق ومنشفيك (الأقلية) عوض عبد الرازق.)) ولماذا يصر على فرية أن ((إذا صح وجوب بقائنا في الحركة الاتحادية كما قال عوض)) ولماذا يكرر ((هل صح عزم عوض فيما اتفق له من خطة البقاء في الاتحاديين؟)) ؟[iv]

    يزعم ع ع ابراهيم كل ذلك لأنه يصر على ان الصراع كان بين بلاشفة ومناشفة ولأنه يتمسك بالرواية الرسمية للحزب العجوز. ولكن القاريء المحايد للتاريخ يعرف ان الصراع ضد عوض قد تم بعد عودة عبد الخالق محجوب النهائية للسودان في مطلع عام 1949 ، فالرجل كان يريد ان يقود بالاصالة وليس بالوكالة ( في شخص عوض) ولذلك كان لا بد من تنحية الاستاذ عوض عبد الرازق رغم كل تلك الانجازات تحت قيادته  وبخلق اسباب كاذبة وواهية وبتزوير مواقفه. لقد كان الصراع بين المكون السوداني في الحركة وهو المكون الذي انشأها منذ 1943 في السودان  والمكون المصري القادم من القاهرة او “اولاد هنري كورييل” . ان تاريخ هنري كورييل البشع في الحط من خصومه الشيوعيين بل والتعدي عليهم جسديا واحتماءه بالسوفيت معروف لكل متابعي الحركة الشيوعية المصرية وقد نقله عنه اولاده للسودان وعلى رأسهم عبد الخالق محجوب. بعد عودة عبد الخالق ومجموعة القاهرة في مطلع 1949 كان لا بد من البحث عن منصب لعبد الخالق فتم ابتداع منصب السكرتير العام ، واتفق ذلك مع سفر عوض عبد الرازق لبورتسودان طلبا للرزق فسقطت الحركة باردة في يد اولاد هنري كورييل اللذين لا تزال تسيطر بقيتهم وعقليتهم على الحزب الشيوعي ، وقد تناولنا كل هذا في مخطوطتنا : “هنري كورييل – المؤسس الحقيقي للحزب الشيوعي السوداني” .

    كان صراع 1951-1952 في جانب منه صراعا فكريا سياسيا ، فقد تمسك الاستاذ عوض عبد الرازق ورفاقه بطرح الحركة في  التحالف مع الراسمالية الوطنية ( الاتحاديين) بينما اتخذ عبد الخالق ورفاقه طريق المغامرة السياسية والتحولات الدراماتيكية من العزلة وبناء حزب شيوعي (ماركسي – لينيني)  وحتى التحالف مع اقصى اليمين الذي كان يمثله حينذاك حزب الأمة (الجبهة الاستقلالية) ثم مع حزب الشعب الديمقراطي لاحقاً . وسوف نتناول تلك التحولات واثرها على التطور السياسي في السودان في كتابنا التوثيقي التحليلي عن تاريخ الحزب الشيوعي السوداني. بينما كان في جانب منه صراعا شخصيا بين شخصيتي عوض عبد الرازق الجماهيرية المنفتحة والشعبية وبين شخصية عبد الخالق محجوب الحزبية التي تخطط وراء الكواليس والمتمرسة في مدرسة الصراع الداخلي الكوريلية. ومن الواضح ان موقف عوض عبد الرازق وقتها كان هو السليم وكان الاقرب لدستور الحزب وتكتيكاته التي تم وضعها عام 1947 .

    لقد انتبه الكثيرون لطبيعة هذا الصراع الحقيقية . يكتب استاذنا زين العابدين صالح عبد الرحمن : ((في عام 1947، أستطاع عبد الخالق محجوب مع بعض زملاءه القادمين من مصر، إلي جانب قيادات في الداخل علي رأسهم عوض عبد الرازق، أن يقيلوا عبد الوهاب زين العابدين الذي كان لديه رؤية فكرية مخالفة، حيث كان يعتقد ليس هناك ضرورة لتكوين حزب شيوعي، أنما يجب الاستفادة من التيارات الاتحادية الليبرالية لنشر الفكر اليساري، اعتبره عبد الخالق رؤية تحريفية انتهازية، و استخدم الوسائل الإجرائية للإقالة، و كرر ذات الشيء مع عوض عبد الرازق، عندما طرح رؤيته الفكرية في تقريره ” للفترة 1947 – 1952 للحركة السودانية للتحرر الوطني” قال فيه ( ما زال من واجبات الحركة السودانية للتحرر الوطني المركزية، تحقيق تحالف شعبي واسع معاد للاستعمار، حتى تحقق مهمة إجلاء الوجود الأجنبي، و السير في طريق الثورة الوطنية الديمقراطية، التي من أسسها الضرورية ذاك التحالف الجبهوي العريض. فعلينا منذ الآن تكثيف الجهود من أجل جبهة معادية للاستعمار، كمقدمة لجبهة وطنية ديمقراطية تجعل الاستقلال السياسي يتكامل مع الاستقلال الاقتصادي، و السير في طريق التطور الرأسمالي) هذه الرؤية للإبقاء علي أن تكون الجبهة الوطنية تحالف ديمقراطي عريض، لكي تستطيع أن تنجز أهدافها الوطنية من خلال تحالف شعبي عريض، تخالف رؤية عبد الخالق محجوب التي كانت تنادي بتكوين حزب شيوعي مستندا للمرجعية الماركسية. لم يذهب عبد الخالق في طريق الجدل الفكري لكي يخلق وعيا جماهيريا واسعا، لكنه فضل اللجوء إلي العزل و التصفية و فصل عوض عبد الرازق، هذه الإجراءات تواصلت مع عددا من قيادات الحزب، مستخدما فيها حتى الحرب النفسية مع عددا من القيادات))[v]

    اننا لن نتناول مجموعة الاسئلة الساذجة التي ذكرها ع ع ابراهيم عن مآلات أفكار عوض عبد الرازق وخططه، فكلها مبنية على اساس خاطيء ومزيف في نسبة افكار ومواقف كاذبة للرجل، وما بنى على باطل فهو باطل. لكننا سنتطرق سريعا لهذه الفقرة المسمومة في مقال ع ع ابراهيم حيث يقول: ((كوَن عوض بعد انقسام 1951 جماعة اسمها “الحركة الديمقراطية”. وكانت ظلاً وقف ما زاد. وصفها لي الدكتور عبد القادر حسن إسحاق، العضو البارز فيها، بأنها تفرقت إيدي سبأ لخلافات تنظيمية لأن من قادتها مثل بابكر احمد موسي، مؤلف “الفلاح الفصيح” وآخر في تاريخ السودان، من أراد أن يحولها إلى حركة دينية. ثم جددها بعض جماعة عوض عبد الرازق مثل سيد أحمد نقد الله وبدر الدين سليمان وعلى التوم في حركة باسم الجمعية الوطنية أصدرت مجلة “القافلة” التي حررتها حاجة كاشف العضو بالجمعية وزوجة على التوم. وراحت الجمعية الوطنية في الزفة أيضاً. أما عوض نفسه فتمسك بالاتحاد مع مصر في “الطليعة الاتحادية” بعد هجران الأزهري لخطة الاتحاد. ثم انتهى إلى حزب الشعب الديمقراطي. وكان ضمن “كرام المواطنين” من الختمية وغيرهم الذين رفعوا عريضة تؤيد الفريق إبراهيم عبود في منعطف زنقة.))

    لا يهم في تاريخ الأفكار أن تملك الحشود والجماهير وان تتفرق شيعا أو ايدي سبأ . فهتلر ملك من الأتباع ما لم يملكه غيره ، وانتهى الى مزبلة التاريخ. وسقراط انتحر وحيدا ومحي الدين بن عربي لم تستمر طريقته والمسيح علق على صليب فردا في حين هرب اتباعه الاثني عشر، وبليخانوف مات وحيدا ونيتشة مات في مصحة عقلية. وهكذا مصير الافكار الكبيرة والمتقدمة الا تكسب مناصرين في زمانها حتى ينتصر لها التاريخ بعد حين.

     أما حزب الشعب الديمقراطي فقد تحالف معه الشيوعيون منذ تأسيسه وحتى حله. أما مذكرة كرام المواطنين فلا شك ان هذا كبوة لاستاذنا عوض عبد الرازق إن وَقع عليها ، رغم ان اغلب نصها كان يتناول العلاقة مع مصر الناصرية ويدافع عنها اكثر منها تأييدا لعبود. لكن هذه المذكرة كانت جزءا من الادب السياسي السائد حينها ، فقد كتب السيد الصديق المهدي مذكرة لعبود وكذلك فعل السيد اسماعيل الازهري . وقبلهما كان قادة الطوائف قد ايدوا عبود تأييدا مباشرا في برقيات رسمية، بل لقد رفعت جبهة المعارضة نفسها مذكرات لابراهيم عبود تعاملت معه فيه كرئيس وكانت قيادات الحزب الشيوعي نفسها من الموقعين. فقد وقع على مذكرة القيادات المعارضة الاولى أحمد سليمان بينما وقع على الثانية .. عبد الخالق محجوب ، كلنج  أب صلعة نفسه. فتأمل  هذا الكيل بمكيالين والنظر بعين حولاء والغرض الذي هو مرض عضال.

    إنني في هذه العجالة لن أتطرق لمفهوم ع ع ابراهيم الساذج عن نفسه كبلشفي ، ومحاولة تشنيعه على  استاذنا عوض عبد الرازق بوصفه بالمنشفي وهي شتيمة في عرف الشيوعيين، فالطيور على اشكالها تقع ومرمي الله ما بيترفع. لكننا فقط نشير الى كذبه وتزويره حينما يتحدث عن البلاشفة انهم اغلبية وعن المناشفة انهم اقلية. فطوال تاريخ حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي لم يتحول “البلاشفة” الى اغلبيىة قط حتى عام 1917، وفعلوا ذلك فقط بقوة الحديد والنار. لقد كانت هذه واحدة من تزويرات التاريخ البغيضة .[vi]

    غير هذا فلقد اثبت التاريخ ان المناشفة كانوا على حق في اطروحاتهم وسياساتهم وسلوكهم ، ولا غرو فقد كان بين المناشفة المفكرون النبلاء  فيرا زاسبوليتش وجورجي بيلخانوف وبافل اكسلرود الذين اسسوا الحركة اليسارية والاشتراكية في روسيا وكان جورجي بيلخانوف واحدا من اكبر مفكري عصره، وسلمت اياديهم كلهم من الدماء، بينما  كان قادة البلاشفة  “المتسلبطين”  الاجلاف  لينين وستالين وجيرجينسكي  وتروتسكي الذي انضم لهم من اكبر سفاحي عصرهم. لقد سبب  حزب الاقلية المدعى زورا بالبلاشفة لروسيا  والشعب الروسي آلاما جمة ، مما كشفها المؤرخون ومما كشفها شرفاء المفكرين .

     لكن ع ع ابراهيم غير معني بالحقائق التاريخية ، البسيطة منها والمركبة، ولو عني بها لما كان ما هو عليه الآن – موظفا سلطويا ، ولكنه معنى ببريق السلطة . و”البلاشفة” قد كسبوا السلطة والصراع ضد المناشفة وكانوا “اغلبية” ، فلم لا يكون بصفهم في روسيا أو في السودان؟. ولا يهم بعد ذلك كمية الجرائم والالام التي احدثوها في روسيا او في السودان، فما تهم هي السلطة فقط ، مادية او معنوية. وفي علاقة ع ع ابراهيم مع السلطة تاريخ مخز سنتعرض له في سلسلة مقالات أخرى في حياة الرجل أو بعد مماته.

    في النهاية نقول اننا نجدد الدعوة لرد اعتبار استاذنا عوض عبد الرازق كشخصية وطنية ومفكر عبقري وانسان شريف. هذه الدعوة موجهة للحزب الشيوعي في المقام الأول كونه الذي شوه صورة استاذنا عوض عبد الراوزق عبر التاريخ، ولكنها ايضا موجهة لاشخاص بعينهم كتاج السر عثمان ( السر بابو ) وعبد الله علي ابراهيم ممن خانوا امانة المثقف وانتموا للسلطة وشاركوا في سحل المفكرين وحاربوا شرفاء  المناضلين ولا زالوا يفعلون .

    عادل عبد العاطي

    23/7/2016

    [i]  عبد الله علي ابراهيم : ودا كلو من تحت دقنوس كلنج أب صلعة: ألحقنا يا راشد – مقال نشر بموقع الراكوبة بتاريخ 19/5/2016

    [ii] عبد الخالق محجوب : لمحات من تااريخ الحزب الشيوعي السوداني ، الطبعة الثالثة 1987 ، دار الوسيلة للطباعة والنشر ، الخرطوم ، صفحات 46-48

    [iii] عبد الخالق محجوب ، لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، مرجع سابق ، صفحات 49-50

    [iv] عبد الله علي ابراهيم : مرجع سابق

    [v] زين العابدين صالح عبد الرحمن : دعاة الأيديولوجية و الخصام المتواصل مع الديمقراطية- مقال نشر بموقع حريات سودان – 23/7/2016

    [vi] راجع في هذا مخطوطتي بعنوان : الانقلاب البلشفي

  • عبد الله علي إبراهيم ورد الإعتبار للأستاذ عوض عبد الرازق ( 2 من 3)

    مقدمة:

    تعرضت في الحلقة الفائتة للدخان الذي اطلقه عبد الله علي ابراهيم حول دعوتنا لرد الاعتبار للاستاذ عوض عبد الرازق من الظلم التاريخي الذي تعرض له من مؤسسات الحزب الشيوعي وتشويه سمعته وحرقه عبر التاريخ ، وقلنا انه اذا عرف السبب بطل العجب، فعبد الله علي ابراهيم نفسه كان من جوقة المشنعين على الاستاذ عوض عبد الرازق، إبان عضويته في الحزب الشيوعي. ولما خرج من الحزب العجوز – خورا وضعفا وجبنا وليس قناعة بفشل الحزب او ماركسيته الستالينية – لم يحرك ساكنا لرد الاعتبار لذلك الرجل وغيره من ابطال الحركة الوطنية والعمالية ، اللذين مرغ الحزب الشيوعي اسمهم في التراب، بل حاول ان يجد المبررات والمراقات لتلك الممارسات البشعة .

    فعبد الله ع ابراهيم يعرف تاريخ التشنيع والتشويه لإسم وسيرة الاستاذ عوض عبد الرازق جيدا ، ولا غرو فقد كان ع ع ابراهيم المسؤول الثقافي للحزب الشيوعي في السبعينات واطلع على معظم وثائقه وارشيفه القديم، ولا يسمى هذه الممارسة بإسمها الحقيقي كممارسة لاغتيال الشخصيىة او الشواء الآدمى كما سماها الاستاذ شوقي بدري وانما يحاول ان يبررها ويفسرها ويفلسفها بأنها جزء من ((طلاق السياسة والثقافة في حظيرة الأحزاب الموصوفة بالعقائدية)). يا سلام!

    التزوير واللؤم في منهج ع ع ابراهيم:

    ويمضي الرجل في مقاله المعنون ” الترابي البولشفيكي ، عوض عبد الرازق المنشفيكي” للقول : ((فصراع عام 1952 في الحزب الشيوعي هو نزاع بين الجهاديين الثوريين بقيادة أستاذنا المرحوم عبد الخالق محجوب وبين الدعويين التربويين بقيادة المرحوم عوض عبد الرازق . فقد ساء عوض أن يرى الحزب يبدد طاقته بين الجماهير “من جم” ويفقد التركيز على تربية الطبقة العاملة في حرف وروح الاشتراكية . ومما يذكر أنه في اجتماع المواجهة بين شيعة عوض وشيعة عبد الخالق قذف عوض بطائفة من الكتب الماركسية عن المزارعين أمام المجتمعين سائلاً إياهم أن يطلعوا عليها قبل أن يبلغوا بنشاطهم جمهرة المزارعين (أو كتل الفلاحين كما كان يقول أخونا حسن عبد الماجد المحامي).ولم يُكتب النجاح لعوض وجماعته التربوية في يومهم ذاك. فقد اكتسحهم جهاديو عبد الخالق الذين قالوا يكفينا لبلوغ أوسع الجماهير مجرد عموميات الماركسية ، ثم نغتني منها بالممارسة علماً ودربة ، ” نعلم الجماهير ونتعلم من الجماهير” كما جرت العبارة .))[i]

    العبارة السابقة مليئة باللؤم والكذب. أما الكذب فيتبدى في ترديد تخرصات دعاية الحزب الشيوعي ان عوض عبد الرازق كان عقائديا ركز على ((على تربية الطبقة العاملة في حرف وروح الاشتراكية)) . اما اللؤم فيتبدى في محاولة تصوير الاستاذ عوض عبد الرازق انسانا اكاديميا متعنظزا يرمى بالكتب أمام المجتمعين، وهي واقعة ليس لها اسناد تاريخي وهي من قبيل اساطير الشيوعيين التي تزيف التاريخ. كما يتبدى اللؤم في تسمية عبد الخالق محجوب بالأستاذ وعوض عبد الرازق بالمرحوم، فتأمل لتعرف اين يقف ع ع ابراهيم.

    فوفقا لتقرير الاستاذ عوض عبد الرازق الذي كان مغيبا في ارشيف الحزب الشيوعي وتم نشره مؤخرا من طرف الاستاذ مهدي إسماعيل مهدي، وقمنا باعادة نشره في مقالنا الأصل حول رد الإعتبار للأستاذ عوض عبد الرازق،  فإن عوض عبد الرازق قد دعا الى ((توسيع قاعدة عضوية الحركة كمياً ونوعياَ، وذلك بالغوص في صفوف الشعب على مختلف طبقاته وفئاته مما يجعلنا نطور نهج المواجهة الذي بدأته الحركة في أحداث الجمعية التشريعية إلى تحالف وطني عريض معادٍ للوجود الاستعماري))[ii] كما رفض من جهة ((كل خط سياسي يدعو للانغلاق والعزلة ولا يدعو لإستقلالية منبر الحركة، أو يدعو للذوبان في الأحزاب الأخرى.)) ومن الجهة الأخرى ((تحجيم الخط اليساري المتعجل الداعي للقفز فوق المراحل بتحويل الحركة السودانية للتحرر الوطني لحزب شيوعي (ماركسي لينيني). )) وهذا ما ينفى تماما انعزاليته او تحجره او ان يكون عقائديا اكثر من عبد الخالق محجوب.

    ع ع ابراهيم يجمل التاريخ الوحشي للشيوعيين:

    ويمضي عبد الله علي ابراهيم ليذكر واقعة الاغتيال المعنوي والشتم والتشنيع التاريخي على استحياء ، دون ان يدينها، بل أنه يضيع صوت الادانة المحتمل  وسط فذلكات تاريخية مملة. ففي نفس المقال يقول ((وصحب انتصار الجهاديين فظاظة فكرية عالية بحق التربويين . فقد جرى وصفهم بالتصفويين ، ممثلي الطبقة الوسطى القانطة . حتى صار لا يرد ذكر المرحوم عوض عبد الرازق إلا مسبوقاً بـ ” الانتهازي” . وللقارئ أن يرجع الى كتيب ” لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي” الذي كتبه أستاذنا عبد الخالق بين سنتي 1960 و 1961 ليقف على جزئيات هذا الصراع . وسيُلاحظ القارئ بغير عناء أن الكتيب قبس في خطة التأليف ، وفي اللغة القاطعة الجارحة من الكتاب الحرباء : تاريخ الحزب الشيوعي السوفيتي ، ولعل أهم هدى أخذه كتيب عبد الخالق عن تاريخ الحزب الشيوعي السوفيتي – الفكرة التي مؤداها أن تاريخ الحزب الشيوعي الحق لا يصدر إلا عن لجنة مؤلفة أو مكلفة من اللجنة المركزية للحزب . ومن حسن حظنا جميعاً أن الله قد شغل اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني عن كتابة التاريخ بأمهات أخرى من الأمور في حين صدرت أعمال أكاديمية مرموقة أمينة عن تاريخ الحزب الشيوعي مثل التي كتبها صديقنا الدكتور محمد نوري الأمين .))[iii]

    الشاهد ان ما تم لم يكن فظاظة لفظية ، ولم يكن لغة قاطعة جارحة كما يزعم عبد الله علي ابراهيم ، وانما كانت حرقا معنويا واغتيالا نفسيا . كانت معاملة عوض كما مريض الجذام ، وجعلت وصمة الانتهازية حياته جحيما لا يطاق كما اورد استاذنا شوقي بدري، وهي من الموبقات والجرائم كما وصفها استاذنا طلعت الطيب. ولقد ذكر الاستاذ يوسف حسين ( حسن تاج السر ) وهو يصف الحال في الحزب الشيوعي وقيادته انها تتميز ب:((سيادة أساليب الهيمنة والتشرذم والفتك بالخصوم وتدميرهم عن طريق تشويه السمعة وفبركة التهم  وتسريب الاختلاقات والأقاويل عن القادة الغير مرغوب فيهم للحط من شأنهم وقتل شخصياتهم  والإنتشاء باخبار السقوط والإرتداد والإبعاد من القيادة وافتقاد الحق والعدل داخل الحزب  وأصبحت القيادة نهباَ للكذب والتآمر، وتحول الحزب الي قطيع مسلوب الارادة وانطمست معالم الحزب كمؤسسة ديمقراطية.))[iv] ولكن عبد الله علي ابراهيم لا يدينها وانما يبررها ، وهو الذي يعلم كل ذلك وأكثر من ذلك.

    ع ع ابراهيم وعشق السلطة:

    الواضح ان ما مارسه الحزب الشيوعي تجاه الاستاذ الراحل هو عين ما قاله يوسف حسين ، اي “الفتك بالخصوم وتدميرهم عن طريق تشويه السمعة وفبركة التهم  وتسريب الاختلاقات والأقاويل عن القادة الغير مرغوب فيهم للحط من شأنهم وقتل شخصياتهم  “. والشاهد ان هذا الفتك بالاستاذ عوض عبد الرازق مستمر منذ عام 1952 وحتى اليوم ، والموثق ان الكثيرين من الشرفاء ممن لا يملكوا معلومات ووثائق ع ع  ابراهيم قد طالبوا برد اعتبار الرجل وانهاء ذلك الظلم التاريخي، و عبد الله ع ابراهيم لا يفعل ، فما هو السبب ؟

    السبب إن عبد الله علي ابراهيم يحتفي بأهل السلطة حيين او ميتين. وقد انتصر عبد الخالق محجوب في معركة السلطة على استاذنا عوض عبد الرازق، ولا يزال يملك سلطة معنوية على الحزب العجوز وفي عموم السودان. ولذلك وجب مدحه حتى لو اثبت التاريخ صحة أفكار ومواقف عوض عبد الرازق. والشاهد ان الترابي قد كسب معركة السلطة ولا يزال يملك سلطة معنوية ، لذا وجب مدحه بل ((وصف ع ابراهيم وفاته بالخسارة للوطن كاشفاً عن ملازمته لسرداق عزاء الفقيد لثلاثة ايام ))[v]،  ولو اجرم في حق كل شعب السودان.

    وتسود اشاعة وسط القوى السياسية أن قيادة الحزب الشيوعي قد اصدرت تعميما داخليا في السبعينات إبان استقالة عبد الله علي ابراهيم شديد اللهجة ، ألا يتعرض له أحد من أعضاء الحزب العجوز بشرٍ. انني لا اعلم صحة هذه الواقعة ولكنها لو  لو كانت صحيحة فهي تكشف ان تلك القيادة قد كانت “نجيضة” . فهي قد عرفت وله الرجل بالسلطة، وعرفت انه مصنوع من نفس طينتها، وأنه يمكنها الاعتماد عليه في تسويف الحقائق والمعلومات فيما يتعلق بتاريخ الحزب الشيوعي، وأنه من النوع الذي لا يمكن أن ينتصر لمظلوم . وها إن التاريخ يثبت انها – في هذه الواقعة – قد كانت على حق.

    عادل عبد العاطي

    19/7/2016

    [i] عبد الله علي ابراهيم – مقال بعنوان : الترابي البولشفيكي، عوض عبد الرازق المنشفيكي ، نشر في صحيفة الراكوبة الالكترونية ، 17/9/2012

    [ii]عوض عبد الرازق: تقرير السكرتير التنظيمي للحركة السودانية للتحرر الوطني عن الفترة من يوليو 1947 – أكتوبر 1952 – قدم للمؤتمر الثاني للحركة السودانية للتحرر الوطني ( حستو) – اعاد نشره الاستاذ مهدي اسماعيل مهدي.

    [iii]عبد الله علي ابراهيم – مرجع سابق.

    [iv]وردت في مقال للتجاني الطيب بابكر : مجلة قضايا سودانية – العدد الثاني والعشرون، ديسمبر 1999، صفحة 1

    [v]عبد الله علي ابراهيم – حوار مع صحيفة ” الاهرام اليوم” – اعيد نشره بصحيفة الراكوبة الالكترونية – 23/3/2016