التصنيف: فكر أقتصادي

  • الطفرة الاقتصادية – 2025-2035 : قطاع التعدين

    المقدمة:

    يقع السودان في قلب الدرع العربي النوبي (Arabian-Nubian Shield) الممتد من مصر شمالًا حتى كينيا جنوبًا، ومن السعودية شرقًا حتى الصحراء الكبرى غربًا. تشكّل الدرع بين 870 – 550 مليون سنة، ويُعد من أكبر مناطق القشرة “الفتية” على الأرض (juvenile crust)، غنية بالمعادن النفيسة والصناعية في السعودية والسودان وجنوب السودان والكنغو وإرتريا وإثيوبيا.

    في ضمن هذا الدرع تكونت أهم الأنماط المعدنية في السودان من ذهب وأوردة كوارتزية (orogenic & epithermal gold) وكبريتيدات نحاس وزنك (VHMS) ونحاس رسوبي (sediment-hosted Cu) وبوكسيت وألومنيوم محتمل في ولايات دارفور وجبال النوبة ، فضلاً عن وليثيوم وتنتالوم في بجماتيت بجبال البحر الأحمر وجنوب النيل الأزرق وسيليكا عالية النقاوة في الشمالية ونهر النيل وشمال كردفان.

    ورغم إن السودان يجلس على واحد من أغنى الأقاليم الجيولوجية في العالم ، إلا إن التركيز المفرط على الذهب جعل البلاد تفقد فرصًا ضخمة في تعدين وإنتاج بقية المعادن مثل النحاس، الليثيوم، السيليكا، الكوبالت، الخ وهي معادن استراتيجية للمستقبل.

    السياسات الحالية والقوانين المنظمة:

    يعتمد الإطار القانوني لسياسات التعدين على عدة قوانين ولوائح من بينها قانون الثروة المعدنية والتعدين لعام 2015 (تعديل لقانون 2007) والذي يمنح وزارة المعادن حق الإشراف والتنظيم على القطاع، ويضع تقسيمات: امتياز – استكشاف – تعدين صغير – تعدين تقليدي لعمل الشركات والمناجم والنشاطات المختلفة في هذا القطاع.

    على أساس هذا القانون تم إنشاء الشركة السودانية للمعادن كذراع رقابي مالي/فني للوزارة، بينما يسمح القانون بمشاركة الشركات الوطنية والأجنبية وفق نظام عقود الامتياز، مع رسوم إتاوة (royalty) وضريبة أرباح.

    السياسات الفعلية الحالية تتركز على تعدين الذهب والذي يمثل 80–85% من قيمة الصادرات المعدنية. في داخل هذا الإطار الضيق نجد إن التركيز منصب على التعدين الأهلي (التقليدي) الذي يضم أكثر من مليوني عامل، مع ضعف النشاط والرقابة على المعادن الأخرى (النحاس، الكوبالت، الليثيوم)، وذلك في ظل غياب إستراتيجية متكاملة للمعادن الصناعية، حيث لا توجد خطط قومية لتطوير قطاع النحاس والليثيوم والسيليكا رغم الطلب العالمي. كما أدى ضعف التنسيق بين وزارة المعادن ووزارات أخرى (الطاقة، البيئة، الصناعة، المالية) الى ثغرات عظيمة في هذا المجال.

    الإنتاج الحالي وواقع التصدير :

    كما اسلفنا يشكل الذهب اكبر منتج معدن حاليا ويبلغ الإنتاج السنوي الرسمي ما بين 50 – 90 طن، في ظل وجود قطاع غير رسمي يعتقد انه يمثل حوالي 40–70% من الإنتاج يذهب اغلبه عن طريق التهريب مسببا خسائر في حدود 1-2.5 مليار دولار سنويا للخزينة العامة.

    فيما يتعلق بالاستثمار الأجنبي هناك شركات كبرى عملت في هذا المجال مثل أرياب الفرنسية سابقًا، كما نشطت فيه شركات روسية، تركية، مصرية، محلية). أغلب هذا الاستثمار الأجنبي غير مقنن بشكل واضح.

    المنتج الثاني هو النحاس والزنك حيث تم إنتاج بسيط في مناجم هساي/أرياب كانت تنتج Cu-Zn-Au-Ag منذ الثمانينات (بالتعاون مع شركة فرنسية). تراجع الإنتاج بسبب قلة الاستثمارات وتخلف التكنولوجيا.

    فيمايتعلق بالكوبلت والنيكل هناك مؤشرات جيولوجية مشجعة في جبال البحر الأحمر وجنوب كردفان ولكن لم تبدأ مشروعات صناعية جادة رغم الطلب العالمي. أما الألومنيوم والبوكسيت فهناك مناطق إنتاج محتملة في جبال النوبة ودارفور، غير مستكشفة بالكامل.

    يوجد الليثيوم بكميات مشجعة بجماتيت في البحر الأحمر والنيل الأزرق ولم يُستغل حتى الآن، رغم كونه “معدن المستقبل” للبطاريات. كما توجد احتياطيات ضخمة لمعدن السيليكا في الشمالية ونهر النيل وشمال كردفان (عالية النقاوة تصل 99%). هناك استغلال محدود يذهب للتصدير كخام، مع عدم وجود صناعة زجاج/ألواح شمسية محلية تستخدم هذا المعدن.

    المعوقات والتحديات لقطاع التعدين:

    هناك مجموعة من المعوقات المؤسسية والسياسية، من أهمها عدم الاستقرار السياسي وضعف الإطار القانوني، غياب الحوكمة والفساد في عقود الامتياز، وتهريب الذهب وضعف الرقابة الجمركية.

    أما المعوقات الفنية والتقنية فتشمل محدودية الدراسات الجيولوجية التفصيلية الحديثة (آخر مسح قومي شامل تم في الثمانينات)، وضعف البنية التحتية (طرق، كهرباء، مياه) في مناطق التعدين ونقص المعامل الجيوكيميائية والمتخصصة في المعادن.

    وتضم المعوقات الاقتصادية الاعتماد على تصدير خام بدون قيمة مضافة، وغياب التمويل طويل الأمد للمشاريع الكبرى، والمنافسة غير العادلة بين التعدين التقليدي والشركات المنظمة.

    فضلاً عن ذلك نرصد وجود عدد من المعوقات البيئية والاجتماعية مثل النزاعات المجتمعية حول الأراضي، وغياب التعويضات واستخدام الزئبق والسيانيد في التعدين التقليدي (ملوثات خطيرة).

    الحلول والسياسات المقترحة:

    نظراً للمعوقات الرئيسية نقترح التالي من الحلول والسياسات:

    1. في حيز إصلاح الإطار المؤسسي نقترح دمج وزارات الصناعة والطاقة والتعدين في وزارة واحدة ، وإنشاء هيئة وطنية مستقلة للمعادن الصناعية (غير الذهب)، مهمتها تطوير تعدين النحاس، الزنك، الكوبالت، الليثيوم، السيليكا وتحديث قانون التعدين ليلزم الشركات بالقيمة المضافة (processing & refining) وإعادة هيكلة وتطوير وتقوية الشركة السودانية للموارد المعدنية بالكوادر والتمويل.

    2. في مجال التطوير الفني يجب إطلاق برنامج مسح جيولوجي قومي جديد باستخدام تقنيات الاستشعار عن بعد بالأقمار الصناعية والمسيرات وتقنيات الذكاء الاصطناعي وإقامة مراكز بحث وتدريب مرتبطة بالجامعات (جيولوجيا – هندسة تعدين).

    3. أما في مجال التكامل الصناعي فلا بد من إنشاء مصفاة للذهب في السودان، وأخرى للنحاس والزنك ومشاريع لبطاريات الليثيوم. في هذه المشاريع الثلاثة يمكن عقد شراكات مع قطر/ السعودية ( مصفاة الذهب) والصين/ الهند ( مصنع بطاريات الليثيوم واستراليا/ بولندا في حالة مناجم ومصفاة النحاس، كما تطوير صناعة الزجاج والخلايا الشمسية باستخدام السيليكا ( بالشراكة مع ألمانيا).

    4. في مسألة التمويل والشراكات لا بد من تشجيع صناديق الاستثمار الإفريقية والعربية والدولية للدخول في القطاع، وإنشاء وتفعيل دور كل من صندوق التنمية وإعادة البناء السوداني والبنك السوداني/ الأفريقي للبنية التحتية لتمويل مشاريع التعدين.

    5. فيما يتعلق بقضايا الحوكمة و والشفافية لا بد هنا من الانضمام الكامل لمبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية (EITI) وإشراك المجتمعات المحلية عبر عقود المنفعة المشتركة (Community Benefit Agreements).

    6. لا يزال الزئبق يشكل احد التحديات البيئية الأشد خطرا، لذلك لا بد من حظره تدريجيًا واستبداله بتقنيات صديقة لللبئية و والاستدامة، وإلزام الشركات بخطط إعادة تأهيل الأراضي المستخدمة في التعدين ومراقبة جودة المياه والهواء حول مواقع التعدين.

    خاتمة :

    بتنفيذ حزمة سياسات و وإجراءات تهدف إلى الإصلاح المؤسسي بما في ذلك أعادة الهيكلة للمؤسسات المشرفة على التعدين، و إصلاح القوانين، وجذب الاستثمارات عن طريق سياسة استثمارية شرسة، وتبني نهج شفاف ومستدام، يمكن لقطاع التعدين أن يتحول من نشاط تقليدي محدود القيمة إلى قاطرة تنمية صناعية وتكنولوجية خلال العقد القادم.

    22 اغسطس 2025

    ملاحظة: هناك دراسة تفصيلية من 50 صفحة حول تطوير قطاع التعدين والصناعة المرتبطة بالتعدين بالسودان، أعددتها لصالح المؤسسة الأوروبية – الافريقية ومقرها وارسو، موجودة على هذا الرابط

    https://archive.org/details/20250822_20250822_2241

  • دخل أساسي مضمون لكل مواطن

    (اطروحات ليبرالية لمواجهة الفقر وتنشيط الإقتصاد)

    مقدمة:

    بدأ المجلس المحلي لمدينة اوترخت الهولندية وهي احدى اكبر المدن في الاراضي المنخفضة مشروعا لصرف مرتب اساسي او “دخل اساسي” لكل مواطن بالغ في المدينة غض النظر أن كان يعمل ام لا. ويكفي هذا الدخل الاساسي لتغطية اهم الاحتياجات الانسانية وهي الطعام والسكن، فيما يحقق الدخل الاضافي الناتج من العمل بقية الاحتياجات.

    وتأتي الخطوة كمحاولة لإصلاح نظام الضمان الاجتماعي الذي يمنح للعاطلين والذي تنخره البروقراطية التي تلتهم في آلتها الجمهنمية قسطا كبيرا من ميزانية الضمان الاجتماعي. كما يرى الليبراليون إن نظام الضمان بشكله الحالي يميز بين المواطنين فوق أنه ينتهك كرامة المنتفعين منه باسئلة واستبيانات مزعجة عن وضعهم الاجتماعي.

    وسيتم تمويل هذا البرنامج في هولندا من ميزانية الضمان الاجتماعي وكذلك من ضريبة صغيرة خاصة لهذا الغرض. كما يمكن تمويله في الدول الغنية بالموارد النفطية او المعدنية من جزء من تلك الموارد او من القسم الذي تحصل عليه الدولة من الشركات العاملة في تلك القطاعات نظير السماح لها بالتنقيب والانتاج (الرويالتي).

    تجارب تاريخية:

    هذا الحل الاقتصادي لمعالجة الفقر تمت تجربته من قبل في مدينة كندية تسكنها أغلبية من السكان الأصليين (الهنود الحمر) وحقق نتائج ناجحة [i]. الآن ينظر البرلمان السويسري في تنفيذه وكذلك الحكومة الهندية. وقد طالبت نائبة عن حزب الخضر البريطاني اتخاذه في بريطانيا سبيلا لحل مشكلة الفقر.[ii]

    ايضا تم تنفيذ الفكرة بنجاح في ناميبيا في قرية اوميتارا في اعوام ٢٠٠٨-٢٠٠٩ حيث كانت معدلات الفقر عالية ووصفت بانها محطة بالإنسانية. ادى هذا الحل لرفع انتاجية العمل عكسا لما يشيعه خصوم الفكرة انها تشجع على الكسل.[iii]

    جدير بالذكر ان اول من طرح الفكرة كان هو الليبرالي توماس بين في 1795 في كتابه عن ” العدالة الزراعية”[iv]، مما يعني انها فكرة متقدمة على جميع المدارس الشيوعية واليسارية وسابقة لها في انسانيتها وعمليتها وبساطتها. ولكن يبدو انها كانت سابقة لاوانها وانها يمكن ان تتحقق فقط في القرن الحادي و العشرين. وقد تطورت الفكرة في بلدان عديدة تحت اسم “الدخل الاساسي المضمون” او “دخل المواطن” وغيرها، ودافع عنها اقتصاديون ومفكرون وعلماء اجتماع ليبراليون وليبرتاريون ومن المدرسة التحليلية والنسوية الاقتصادية الخ حتى دخلت حيز التنفيذ الجزئي حالياً.[v]

    الفكرة في السودان ورأي الليبراليين:

    كان الحزب الديمقراطي الليبرالي قد وعد في البرنامج العام وفي القسم عن القضايا الإجتماعية ب((ترشيد نظام الضمان االجتماعي، ببناء نظام تامين اجتماعي حديث، وتشجيع التامين الخاص للأفراد والعائلات)). من هذا المنطلق ينظر الحزب الديمقراطي الليبرالي بعين الدراسة والاعتبار لتنفيذ فكرة “الدخل الأساسي المضمون” ضمن حزمته الاقتصادية / الاجتماعية لمعالجة الفقر وبناء النهضة الاقتصادية في السودان، وذلك بدفع مرتب الحد الادني لكل شخص بالغ وحتى الموت، واستبدال نظام المعاشات والضمان الاجتماعي ودعم السلع والدعم العيني للاسر بهذا النظام المبسط والمحفز للدورة الاقتصادية.

    وكانت هناك فكرة مماثلة من طرف منظمات ومجموعات مدنية في منطقة دار السلام بجبل اولياء حيث تمت محاولة تحت مسمي (قدح الخير) وهي عبارة عن تقديم مواد تموينية اساسية ومصاريف لكل اسرة في 2010م، ولكن لم يكتب لها النجاح لظروف ادارية ولأنها لم تتم تحت مظلة الدولة. وقد دار خلاف كبير حول فكرة (قدح الخير) حينها بإعتبار ان البعض رأى انها تقوم على تشجيع الكسل والعطاله وبمبدأ (لا تعطني سمكه ولكن علمني كيف اصطاد).

    وتهدف الفكرة في السودان حيث تسود العطالة ولا يتمتع المواطن بإي غطاء اجتماعي لتأمين الحد الأدنى من الاحتياجات للمواطنين بنظام مبسط، حيث يرفع تحقيق الحد الأدنى الاحباط والهم المعيشي؛ ويدفع نحو سوق العمل بجهد أكبر ومن وضع انساني ونفسي واجتماعي أفضل. ويمكن أن يتم تمويل المشروع من حصيلة الرويالتي ومن دمج ميزانيات كل مشاريع الدعم الاجتماعي لتصب في ميزانية هذا المشروع. ونؤمن كليبراليين إن اخراج الناس من حالات الفقر المدقع والعطالة كفيل بتشجيعهم على العمل لا لتكسيلهم.

    في هذا الاطار علق المستشار الاقتصادي للحزب الديمقراطي الليبرالي د. عاصم فقيري قائلا : (الفكرة نابعة من المسئولية الاجتماعية في النظام الاقتصادي وليس لها علاقة بالكسل وغيره من النعوت التبريرية . هذه المسئولية الاجتماعية مقترنة باقتصاد السوق الاجتماعي كون هذا النظام الاقتصادي فيه مدى من الحرية الاقتصادية مما يخلق قدرا من ارتفاع تكاليف المعيشة لذلك فإن المسئولية الاجتماعية هي الجزئية من المعادلة التي تحمي المواطنين ذوي الدخل المحدود من الغلاء المعيشي حتى لا يمس احتياجاتهم الاساسية .

    بالنسبة لهولندا هنالك نظام مسئولية اجتماعية مربوط ببطاقة الهوية حيث ان تلك البلدان من خلال البطاقات الشخصية الممغنطة يمكن معرفة دخل الشخص وهل يقع ضمن الشريحة التي يحق لها التمتع بالخدمات التي توفرها قنوات المسئولية الاجتماعية. وحتى دولة راسمالية مثل السعودية فيها ايضا قنوات عديدة للمسئولية الاجتماعية يدعم من خلالها المواطنون. غير ان السعودية باعتبار مجتمعها العربي الذي تسوده تقاليد واعراف تجعل كثير من المواطنين رغم حوجتهم يتفادون تقبل مثل هذه الدعومات، حتى أني اعرف شريحة كبيرة من السعوديين يطلبون العلاج في المستشفيات الخاصة بتكاليف مرهقة لهم رغم وجود المستشفيات العامة التي لا تقل عن الخاصة في مستوى خدماتها، بينما هنالك اجانب يذهبون للمستشفيات الحكومية بالرغم من تغطيتهم بالتامين الطبي للعلاج في المستشفيات الخاصة. على العموم خلاصة القول ان المسئولية الاجتماعية ضرورة لخلق توازن بين العملية الاقتصادية والتنمية المجتمعية)

    الفكرة مطروحة للنقاش على الإقتصاديين وعلماء الاجتماع والناشطين في مجالات مناهضة الفقر.

    عادل عبد العاطي

    2/1/2016

    اشارات مرجعية:

    [i]The Town Where Everyone Got Free Money- http://motherboard.vice.com/read/th…

    [ii]Dutch city plans to pay citizens a ‘basic income’, and Greens say it could work in the UK- http://www.theguardian.com/world/20…

    [iii]How a Basic Income Program Saved a Namibian Village –http://www.spiegel.de/international…

    [iv]Thomas Paine- Agrarian Justice –https://en.wikisource.org/wiki/Agra…

    [v]https://en.wikipedia.org/wiki/Basic…