سألني الأخ Ahmed Omer ماذا قدم ابن عربي للعالم، وكان ذلك في اطار محاججة زعم فيها هذا الاخ ان ابن عربي قال انه هو الله ( غالباً خلط بين مفاهيمه ومفاهيم الحلاج ).
في هذا المقال، أُسلط شيئاً من الضوء على أبرز ما قدّمه ابن عربي للعالم، من إسهامات فكرية وروحية وثقافية، مما جعله يستحق لقبي “الشيخ الأكبر” و”الكبريت الأحمر”، كما وصفه بهما كبار الفلاسفة والمتصوفين.
موقف ابن عربي من فكرة الإتحاد والحلول:
وفي الحقيقة فقد كان ابن عربي من خصوم فكرة الحلول والاتحاد التي طرحها الحلاج، وقال في ذلك : (العبد عبد، والرب رب، فليعرف العبد قدره، وإياك أن تعتقد الاتحاد، فإنه كفر، وإياك أن تعتقد الحلول، فإنه كفر. وإنما الحق أن تعلم أنك ظاهر بوجود الحق، لا أنك إياه، ولا أنه حل فيك.) الفتوحات المكية، الجزء الثاني، الباب الـ198.
وفي موضع آخر يقول بوضوح: (من قال بالحلول فقد حد، ومن قال بالاتحاد فقد كفر.) المصدر: الفتوحات المكية، الباب الـ73.
ويؤكد ابن عربي في “الفتوحات” أن الحلاج أخطأ التعبير عن تجربته العرفانية فقال: “أنا الحق”. في حين أن العارف لا يتكلم إلا عن الله، لا عن نفسه، ولا ينطق بضمير الأنا في هذا المقام.ومن أبلغ ما قاله في ذلك: ( لو أدرك الحلاج ما قلناه لسكت، ولما قال: أنا الحق. بل لقال: هو الحق.) الفتوحات المكية، الباب 73.
بين إبن عربي وإبن تيمية:
والشاهد أنه حين يُذكر اسم محيي الدين بن عربي (1165–1240م)، يتبادر إلى الذهن أحد أعظم رموز التصوف والفكر الفلسفي في الحضارة الإسلامية والعالم. وربما يكون هو وابن تيمية – على اختلافهما – من اكثر الشخصيات جدلاً وتأثيراً في العالم الاسلامي، كما أشار الشيخ علي جمعة، ففي حين كان ابن تيمية ملهم السلفية على مر القرون، كان ابن عربي شيخ الصوفية عبر التاريخ، رغم انه لم يُخلِّف وراءه طريقة تُذكر ( الطريقة الأكبرية المنسوبة له لا يكاد يكون لها وجود فعلي) .
وفي الحقيقة إن ابن تيمية رغم شدة نقده لفكر ابن عربي، خصوصًا فيما يتعلق بفكرة وحدة الوجود، لم يُكفّره كما فعل كثير من تلامذته أو من جاء بعده من فقهاء السلفية، حين قال عنه : ( وابن عربي صاحب فصوص الحكم هو من أئمة أهل التصوف، وله من الكلام الجيد المستقيم كثير، وله من الكلام الباطل كثير، وإنه وإن كان من أعظم من تكلم في الفناء ووحدة الوجود، فإنه لم يكن منكرًا للشرائع ولا مبطلًا لأحكامها كما يقوله الاتحادية الزنادقة.) مجموع الفتاوى، الجزء 2، صفحة 444
دور إبن عربي في تطوير الفلسفة العربية – الاسلامية:
لم يكن ابن عربي مجرد متصوف انعزالي يكتب في الخلوات، او قائد صوفي طرائقي يجمع حوله الأتباع، بل كان مفكرًا موسوعيًا، متقدمًا في رؤيته للإنسان والكون والإله، متجاوزًا للحواجز الزمنية والحدود الجغرافية.
في هذا قدّم ابن عربي مفهومًا فريدًا في الفلسفة العربية – الإسلامية عُرف لاحقًا باسم مفهوم وحدة الوجود، وهو تصور يرى أن الله هو الوجود الحق، وأن كل ما في الكون تجلٍ من تجليات ذاته، دون أن يكون هو عينه.
هذا المفهوم لم يكن فقط رؤية دينية، بل كان أيضًا رؤية فلسفية عميقة لحقيقة الكون والإنسان والعلاقة بينهما. ألهم هذا الفكر لاحقًا فلاسفة ومتصوفة ومفكرين في الشرق والغرب، وأحدث جدلًا فكريًا عميقًا داخل الفكر والفلسفة الإسلامية وخارجهما.
كرامة الإنسان ومفهوم الإنسان الكامل عند ابن عربي:
كان ابن عربي يؤمن بكرامة الإنسان وعظيم قدره، باعتباره خليفة الله في الارض. هذا المفهوم لكرامة الإنسان عند الشيخ الأكبر ، وتميزه حتى على الملائكة، يفتح الباب للترقي و التحول ويشجّع على تنمية الأخلاق والسمو الروحي.
يقول ابن عربي : (فما في الكون أعظم حرمةً من الإنسان، فإن الله خلق العالم كله من أجله، وخلق الإنسان له، فهو المخلوق على صورته، وهو الخليفة في أرضه، وهو المظهر لأسمائه وصفاته، وهو محل نظره، وهو موضع سره.) الفتوحات المكية، الجزء الثالث، الباب 268
ومن هنا طرح ابن عربي مفهوم الإنسان الكامل باعتباره تمام التحقق والتكامل الأخلاقي والسمو الروحي للإنسان. وقد وجد هذا المفهوم طريقه إلى مدارس فلسفية وصوفية لاحقة، وكان له أثر كبير في الفكر الإنساني، إذ قرّب بين التصوف والفلسفة واللاهوت.
التسامح الديني عند ابن عربي:
من أبرز ما ميّز فكر ابن عربي هو انفتاحه الروحي وتأكيده على وحدة الرسالات السماوية ومقاصدها.
قال في ذلك : (فلا تعتقد أن ما تعتقده في الله هو الحق دون غيره، بل اعلم أن الله قد تجلى في كل معتقَد، وأن كل من عبد الله على وجهٍ، فإنما عبد صورةً من صور تجليه، وهو في جميعها ظاهر، ولذا قال: ﴿كُلٌّ إلينا راجعون﴾.) فصوص الحكم – فصّ حكمة نورية في كلمة نوحية
كما قال في واحدة من أشهر أبياته: (أدين بدين الحب أنى توجهت – ركائبه، فالحب ديني وإيماني)
بهذا المعنى، كان ابن عربي من أوائل من نادوا بـالتعددية الدينية بوصفها تجلٍ من تجليات التجربة الروحية، ورفض الحصرية الدينية والفكرية، وهو موقف سابق لعصره بأشواط طويلة، ويُعتبر اليوم موقفًا متقدمًا في عصر التعددية الثقافية والدينية.
الانحياز للمرأة ورد اعتبارها:
كان ابن عربي من أسبق المفكرين المسلمين في الانحياز للمرأة ورد اعتبارها الروحي والإنساني، فقد رفض النظرة الفقهية التقليدية التي تنتقص من كمالها، وأكّد أن الإنسانية تجمع الذكر والأنثى، وأن الذكورة والأنوثة مجرد أعراض لا تمس جوهر الإنسان. قال في ذلك : (فكلامنا إذًا في صورة الكامل من الرجال والنساء. فإن الإنسانية تجمع الذكر والأنثى؛ والذكورية والأنوثية إنما هما عَرَضان، ليستا من حقائق الإنسانية) رسالة عقلة المستوفز – باب “الكمال الإنساني”.
وفي مواجهة التصورات الذكورية السائدة، فتح ابن عربي أمام المرأة باب الولاية الكاملة، بل أقر لها بمقام “الإنسان الكامل” الذي جعله متاحًا للنساء كما الرجال. وقال في ذلك : (كل ما يصحُّ أن يناله الرجل من المقامات والمراتب والصفات يمكن أن يكون لمن شاء الله من النساء) الفتوحات المكية، الجزء الثاني، الباب 178
ولم يكتف ابن عربي بالتنظير، بل سجّل تجربته الروحية مع شيخاته فاطمة بنت المثنى القرطبية وشمس أم الفقراء المغربية الخ وامتدح علمهما، كما خلد حبه واحترامه للمرأة في ديوان ترجمان الأشواق، الذي جعل فيه محبوبته “النظام” رمزًا للجمال الإلهي والمعرفة. لقد مثّل ابن عربي صوتًا تحرريًا نادرًا في التراث الإسلامي، رأى في المرأة شريكة كاملة في المعرفة والمحبة والقداسة.
إبن عربي وإعادة تعريف المعرفة:
قدّم ابن عربي رؤية شاملة للمعرفة تقوم على التذوق والكشف، لا العقل وحده، ولا النقل فقط. فرأى أن هناك معرفة شهودية، لا يدركها إلا من “ذَاق”، أي عاش التجربة الروحية.
يقول ابن عربي في ذلك : ( فما كل من نقل عرف، ولا كل من عقل وقف، إنما العارف من ذاق، ومن ذاق عرف، ومن عرف وصف، ومن وصف ألحق.) الفتوحات المكية، ج3، الباب 267
بهذا أسس ابن عربي لمدرسة المعرفة العرفانية، التي تعطي للتجربة الداخلية والحدس دورًا مركزيًا في فهم الحقيقة، وهو ما نراه اليوم في مدارس الفلسفة التأملية، والصوفية المعاصرة، وحتى في بعض اتجاهات علم النفس ، مثل نظريات كارل يونغ في علم النفس التحليلي، الذي ميّز بين المعرفة الواعية والمعرفة الناتجة عن اللاوعي الجمعي والرؤى الداخلية، واعتبر أن الرموز والتجربة الصوفية تعبّر عن مكنونات النفس العميقة، وكذلك مدرسة كين ويلبر (علم النفس الإنساني-الروحي)، التي ترى أن الإنسان لا يبلغ تمامه إلا بالتكامل بين العقل، والمشاعر، والحدس، والتأمل.
إسهام إبن عربي في الكتابة والعلوم:
كتب ابن عربي في مجالات مختلفة من بينها اللغة، الفقه، التفسير، الحديث، الفلسفة، والرياضيات الرمزية، بالإضافة إلى التصوف. في المحصلة خلّف ابن عربي ما يتجاوز ال350 عملًا بين كتب مطولة ورسائل قصيرة وشروح وأمالي ودواوين شعرية وكتب رمزية أو كشفية. بعض الباحثين قالوا ان اعماله تجاوزت ال٨٥٠ عملاً بين أعمال محفوظة ومفقودة وأعمال مشكوك نسبها اليه.
يبقى من ضمن أشهر كتبه كتابان هما “الفتوحات المكية” ، وهو موسوعة كبري فيها أكثر من 560 بابًا في 4 مجلدات ضخمة، و”فصوص الحكم”، وهو عمل فلسفي عرفاني مركّز، عدّه ابن عربي خلاصة فكره ولبّ رسالته. والكتابان موسوعتان تدمجان بين التجربة الروحية والتأمل العقلي العميق، وتتناولان موضوعات تتعلق بالله، والكون، والزمان، والمكان، والنبوة، والولاية، والعلم.
كما نُسب لإبن عربي تفسير للقرآن، ربما جُمعت مادته من كتابيه السابقين، يفسر فيه القرآن عرفانياً، ويعد من اكثر التفاسير تميزاً وتفرداً في تاريخ علوم القرآن وتفاسيره المتعددة.
التأثير العالمي واللاحق لإبن عربي:
لم يتوقف أثر ابن عربي عند حدود العالم الإسلامي. في العصور الحديثة، تُرجمت الكثير من أعماله إلى اللغات الأوروبية، ودرسها مستشرقون كبار مثل هنري كوربان (Henry Corbin) وويليام شيتيك (William Chittick) وميغيل أسين بلاثيوس (Miguel Asín Palacios)، الذين أبرزوا تأثيره على الفكر الأوروبي، وحتى على بعض تيارات الفلسفة الغربية الحديثة.
كما أثّر الشيخ الأكبر على شعراء وفنانين وفلاسفة مختلفين مثل الادباء والشعراء جلال الدين الرومي وفريد الدين العطار ومحمد اقبال وجبران خليل جبران الخ ، وفنانين مثل عابد عازرية ولوري اندرسون وفرق موسيقية عديدة من اهمها فرقة Ensemble Ibn Arabi المغربية، وفلاسفة مثل صدر الدين الشيرازي و رينيه جينون وهنري كوربان.
أيضاً اعتبر بعض الدارسين مفاهيمه وتصوراته المعقدة للزمان والمكان والوجود الذري ووحدة الوجود والتجلي الالهي والخلق المستمر الخ، بمثابة مقدمة واستشراف لنظريات فيزيائية حديثة عن النسبية والزمكان والطاقة الكونية و الحقل الكمومي والنظام المتضمن والأكوان المتعددة الخ ، وإن بلغة رمزية. في هذا ربما، عبر الذوق والكشف، استشرف ابن عربي كثيرًا من القضايا والأسئلة التي لا تزال الفيزياء الحديثة تسعى للإجابة عنها.
خاتمة:
لقد قدّم ابن عربي للعالم ما يتجاوز الحدود الدينية والثقافية: قدّم رؤية كونية للإنسان والوجود والدين، تقوم على المحبة والمعرفة والتجربة، وتحترم التعدد، وتساوي بين البشر، وتدعو إلى سلام الإنسان مع نفسه وغيره.
وبسبب من غزارة انتاجه وغنى فكره وتعدد طبقاته، لا يزال إرث إبن عربي، بعد مرور أكثر من ثمانية قرون، يُلهِم الباحثين والفلاسفة والعلماء والروحانيين، ويُعتبر جسرًا حضاريًا بين الشرق والغرب، وبين الدين والفلسفة، وبين العقل والقلب.
لهذا كله اعدُ إبن عربي واحدًا من أعظم العقول الإنسانية على مرّ التاريخ، وأحد اكثر الناس الذين قدموا فيوضاً من المعرفة الروحية والعلمية للعالم.
عادل عبد العاطي
٢٤ يوليو ٢٠٢٥م






