مقدمة:
يُعتبر “التوب” من أبرز رموز الهوية النسائية في السودان. فهو ليس مجرد قطعة قماش تُلف حول الجسد، بل يمثل تاريخًا اجتماعيًا وثقافيًا ممتدًا لقرون، ارتبط بالأنوثة السودانية وبالمكانة الاجتماعية، وأخذ رمزية خاصة في الزواج والحداد والمناسبات. ومع ذلك، يظل السؤال قائمًا: هل التوب ما يزال عمليًا في حياتنا الحديثة؟ أم أنه عبءٌ ثقيل على المرأة السودانية يستدعي خلعه وتجاوزه؟
التوب بين التاريخ والأسطورة:
كثيرون يقعون في مبالغات أو مغالطات حين يتناولون تاريخ التوب. فالرسومات التاريخية تُظهر أن جدّاتنا الأوائل لم يعرفن التوب بشكله الحالي، حيث ارتدت النساء في العصور المروية فساتين طويلة من الكتان، تكون مشدودة أحياناً بحزام عند الخصر. في العصور المسيحية تاثرت الملابس النسوية بالنموذج الكنسي البزنطي والقبطي، ولم يكن للتوب وجود. حتى في سلطنتي دارفور وسنار لم يكن للتوب وجود بالمعنى المعروف اليوم. في بداياته، لم يكن التوب لباسًا ريفيًا، بل كان زياً محصورًا بالمدن والمناطق الحضرية.
الأرجح أن التوب ظهر في القرن التاسع عشر كتطور ناتج من التفاعل مع أزياء شعوب مجاورة، كالـ”شَمَا” الرجالية الحبشية، أو “الملاية اللف” المصرية، أو “الحايك” المغاربي.
تطور التوب عبر العقود من “توب الزراق” أحادي اللون إلى التوب المزخرف والملون، وانتقلت خامته من الدمور ثم “السكوبيس” إلى الحرير. وبين توب الزراق القديم والتوب العصري برزت مرحلة انتقالية مهمة هي “الفِرْكَة النقّاديّة”. لذلك لا يمكن القول إن التوب إرث ثابت؛ بل هو زي متحول خضع لتأثيرات جمالية وثقافية عديدة، شبيهة بما جرى للساري الهندي أو الكيمونو الياباني.
التوب كرمز للهوية:
رغم حداثة ظهوره، صار التوب علامة فارقة للمرأة السودانية. فهو يرمز إلى الرسمية والإحترام حين يُرتدى باللون الأبيض، حيث كان زي الموظفات او المعلمات، والى الفرح حين يرتدي بألوان جذابة في الأعراس، وإلى الحزن حين يكون أبيض أو أزرق داكن في المآتم. كما يحمل أيضًا قيمة إجتماعية، فالتوب اليومي يعكس ذوق المرأة ومكانتها، حيث هو شبه محصور على المتزوجات، ويُعتبر وسيلة للتمايز الثقافي عن نساء أفريقيا والعالم العربي.
هناك طبعاً أزياء مشابهة مثل “الساري” الهندي و”الملحفة” الموريتانية، وهنا تُطرح أسئلة لا اعرف اجابتها عن علاقة التوب السوداني بهذه الأزياء، رغم إقرارانا بالتلاقح الثقافي ما بين شعب السودان وهذه الشعوب. والظاهر إن التوب قد نشأ غالباً في بيئة الساحل بين السودان وموريتانيا، لأسباب تتعلق بالبيئة، ويمكن العثور على نماذج مشابهة له في تشاد ومالي والنيجر.
التحديات العملية:
لكن مع تحولات الحياة الحديثة، صار التوب يواجه مشاكل عملية واضحة، إذ أنه غير مريح للحركة للمرأة العاملة أو الطالبة، والتي تجد صعوبة في إنجاز أعمالها وهي ترتدي التوب. كما هو عبء في المواصلات العامة حيث يحتاج التوب لمساحة وحركة لا يوفرها الواقع اليومي المزدحم. كما أنه غير ملائم للأنشطة الحديثة من الرياضة إلى العمل المكتبي، وبذلك صار التوب بعيدًا عن المتطلبات العملية.
أيضاً واجه التوب منافسة من الملابس الأخرى، ففي زمن الإنقاذ مثلاً انتشرت ظاهرة لبس “العباية” بأشكالها المختلفة. قد تكون العباية أرخص وأكثر عملية، لكنها قطعاً لا تصل لجمال وأناقة التوب.
بين الجمال والانتقاد:
الجماليات مسألة ذوق، لكن من الإنصاف القول إن التوب، حين يُختار بعناية، يزيد المرأة السودانية ألقًا. بعض الألوان والزخارف تناسب درجات البشرة وتبرز جمالها، لكن أغلب تيبان اليوم تبدو مزدحمة أو باهتة. التحدي إذن ليس في أصل التوب، بل في ذائقته وتطويعه للأزمنة.
أما ما قيل عن “تكلفة إنتاج التوب العالية وأنها دليل على تخلف الأسلاف”، فهذا غير صحيح. التوب في بداياته كان بسيطًا ورخيصًا لأنه غير مخيط، متعدد الاستعمالات: يُلبس في النهار ويُستخدم غطاء في الليل ضد البرد. بل كان أوفر من الملابس المخيطة ذات الوظيفة الواحدة. ارتفاع سعر التوب اليوم ليس عيبًا فيه، بل انعكاس لأزمات الاقتصاد السوداني وعقلية البذخ والـ”بوبار” المنتشرة في أغلب مناحي الحياة، رغم الفقر المدقع الذي يعيش فيه أغلب السودانيين.
خاتمة:
غالباً ما سيقى التوب جزءًا من هوية المرأة السودانية، لكنه لن يعيش ما لم يتحول من فرض اجتماعي إلى اختيار حر. إذن الحل لا يكمن في التخلي عن التوب، بل في إعادة تعريف مكانته، أي الحفاظ عليه كزي رمزي وتراثي في المناسبات والاحتفالات، أو ربما تطوير “نسخ حديثة” أكثر عملية وخفة تلائم المرأة العاملة والفتاة الشابة.
في كل الأحوال يجب قبول التنوع، وهو أن التوب ليس الزي القومي السوداني الوحيد، وأنه من حق المرأة السودانية أن تختار بين التوب والملابس الأخرى دون ضغط أو وصم.




