مقدمة:
في أعقاب انقلاب ١٩ يوليو ١٩٧١، أصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني تقريراً عقب دورة انعقادها في شهري نوفمبر – ديسمبر ١٩٧١، زعمت فيه أن نظام جعفر نميري قد أباد ٢٠٠ جندي كانوا عُزلاً من السلاح، بعد سقوط ذلك الانقلاب.
هذا الزعم نُشر في الكتاب الذي صدر عام ١٩٧٥، وشمل تقارير عدة دورات للجنة المركزية للحزب الشيوعي في أعوام ١٩٧١، ١٩٧٢، ١٩٧٣، ١٩٧٤، والذي سُمّي لاحقاً بكتاب الدورات. تحديداً جاء هذا الزعم في صفحة ١٦ من ذلك الكتاب، حيث قالت اللجنة المركزية التالي:
(إن استغلال حادث بيت الضيافة، وإثارة المشاعر بموكب الدفن، يؤكد أن الأمر كله نسخة من حادثة معهد المعلمين العالي عام 1965، لإثارة موجة العداء للشيوعية لتبرير التصفية البدنية للحزب الشيوعي والحركة الثورية، واستخدمت السلطة حادثة بيت الضيافة لتغطية إبادتها لمائتين من الجنود دون محاكمة، وهم عُزّل من السلاح، وللتستر على الذين ارتكبوا الجريمة، وتبرير مجازرها والإعدامات الوحشية).¹
بعدها، وطوال عقود كاملة، وفيما عدا ما ورد في تلك الدورة، لم تشر قيادة الحزب الشيوعي لهؤلاء الجنود المائتين إطلاقاً، ولم توثّق أسماءهم، ولم تذكر حيثيات إبادتهم، وبدوا وكأنهم سقطوا من أضابير التاريخ في غياهب العدم.
نقاش قبل عشرين عاماً:
لهذا فتحت الموضوع للنقاش في عام ٢٠٠٤، حيث كتبت في منبر “سودانيز أونلاين”، في معرض نقاش لمقال للأستاذ عثمان محمد صالح عن عبد الخالق محجوب، أشهيد هو أم قربان، التالي:
(كان الشهيد ( عبد المجيد) شكاك مسؤولاً عن تنظيم الجنود الشيوعيين في الجيش السوداني؛ هذا التنظيم الذي زعمت وثائق الحزب الشيوعي أنه قرر ونفّذ انقلاب 19 يوليو مع الضباط؛ كما قالوا في وثيقة سبتمبر – نوفمبر 1971؛ وفي غيرها من الوثائق؛ إن 19 يوليو قام بها الضباط والجنود الشيوعيون والديمقراطيون؛ وتحديداً تنظيم الضباط الأحرار والجنود الديمقراطيين. (اقرأ: التنظيم العسكري للحزب الشيوعي وسط الضباط والجنود).
في وثيقة “تقييم 19 يوليو”، والتي صدرت بعد أكثر من ربع قرن، نجد أن لا الشهيد شكاك ولا تنظيم الجنود الديمقراطيين أو الجنود الشيوعيين قد شاركوا في التخطيط للانقلاب؛ بل علموا به بعد قيامه؛ ثم طُلب منهم دعمه؛ وكان الدعم بإصدار بيان بذلك؛ وتوزيع بيانات الحزب وسط الجنود؛ الأمر الذي كشف عدداً غير بسيط من هؤلاء الجنود الشيوعيين.
الرائد عبد العظيم عوض سرور، في شهادته عن تقييم 19 يوليو، يقول إنه لا يعرف شيئاً عن ذلك التنظيم؛ وإنه لو كان موجوداً وكان الضباط على علم به؛ لجرى تغيير نوعي في تلك الأيام. إن هذا يثبت أن هذا التنظيم كان في يد قيادة الحزب الشيوعي؛ وأن قرار الدعم من هذا التنظيم والشخص المسؤول عنه أو المشرف عليه – الشهيد شكاك – قد جاء تحت طلب مباشر، وربما قرار، من قبل قيادة الحزب المتنفذة؛ طالما أن الضباط لم يكونوا على معرفة بوجوده حتى.
وثيقة دورة سبتمبر – نوفمبر 1971 تتحدث عن 200 جندي قُتلوا ضمن شهداء 19 يوليو؛ ثم يختفي الحديث عن هؤلاء وعن هذا الرقم بعد ذلك، ولا يُذكر إطلاقاً؛ الأمر الذي أشرنا إليه في مقالنا عن تشويه الحقائق وتزوير التاريخ في وثائق الحزب الشيوعي السوداني.
مما لا ريب فيه أن بعض الجنود ممن وزعوا بيانات التأييد هذه قد انكشفوا، وقد قُتلوا، ولكن قيادة الحزب الأمدرمانية الصفوية لم تكلف نفسها عناء تحقيق سيرتهم وذكر أسمائهم. ومما لا ريب فيه أن عددهم لا يرقى إلى المائتين، وقد كانت هذه من أكاذيب الحزب الشيوعي، والتي لا يجد في نفسه الجرأة لتصحيحها على رؤوس الأشهاد، وإنما يتم التحايل عليها بالصمت وجمع الوثائق القديمة من الفروع بدعوى الأرشفة، في ممارسة ستالينية مشهودة بإعدام الوثائق وتزويرها وتحريفها.
الشهيد شكاك، بوصفه كان مسؤولاً عن هؤلاء الرجال، وبوصفه هو الذي وافق على قرار دعمهم للانقلاب رغم أنه لم يُشاور فيه ولم يكن راضياً عنه، لم يكن له إلا أن يتعذب بتأنيب الضمير، وأن يغرق في السوداوية والإحساس بالمسؤولية عن موتهم. ولا ريب عندي أن هذه كانت واحدة من الأسباب التي دفعته إلى الانتحار في محاولة للتكفير عن ذنب لم يكن ذنبه، وإنما وُرّط فيه، بينما يظل حتى الآن ممن وصفتهم بالعصبة الشيطانية، ينامون بهناء، ويدجلون على البشر، ويتاجرون باسم الشهداء.)2
في ذلك النقاش لم يرد عليّ أي من كوادر الحزب الشيوعي المشاركين فيه، بمن فيهم عضو اللجنة المركزية لذلك الحزب صدقي كبلو. كذلك شارك في النقاش الراحل العظيم الأستاذ الخاتم عدلان، عضو سكرتارية اللجنة المركزية للحزب سابقاً، وهو أيضاً لم يتطرق لهذه النقطة، رغم أنه رد عليّ في وقت لاحق عن ملابسات انتحار الراحل شكاك.
توثيق السكرتير الثقافي للحزب الشيوعي للواقعة:
كان الشخص الثاني الذي أشار لهذه القضية، حسب علمي، بعد تلك الوثيقة الوحيدة اليتيمة، هو تاج السر عثمان بابو، الشهير بـ”السر بابو”، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني والمسؤول الثقافي للحزب، وهو الذي يعتبر نفسه المؤرخ الرسمي للحزب الشيوعي حالياً.
أورد الرجل في مقال له بعنوان: (الذكرى ٥٤ لانقلاب ١٩ يوليو ١٩٧١) نشره موقع “سودانايل” بتاريخ ١٨ يوليو ٢٠٢٥، الفقرة المذكورة من تقرير اللجنة المركزية لدورتها في نوفمبر – ديسمبر ١٩٧١، عن الجنود المائتين، دون أن ينفي المعلومة أو يشكك فيها، بل يظهر أنه يتعامل معها كحقيقة مؤكدة.³
الأسئلة الحرجة:
في ظل استمرار طرح هذه المعلومة، تطرح بعض الأسئلة الحرجة نفسها، كالتالي:
من هم هؤلاء الجنود؟ ماذا كانت أسماؤهم؟ ما هي ملابسات إبادتهم التي تم ذكرها في مرجعين لتاريخ الحزب الشيوعي و١٩ يوليو (الدورة والمقال)؟
لماذا توقف الحزب الشيوعي عن الإشارة لهؤلاء الجنود طوال ٥٤ عاماً؟ لماذا لم يُحقق سيرتهم؟ ولماذا لم يذكر أسماءهم كشهداء له أو كشهداء للديمقراطية أو السيادة الوطنية، كما كان يصف الضباط المعروفين بالاسم من قادة ١٩ يوليو؟ وكما وثّق ومجّد الجندي أحمد إبراهيم الذي يصفه الحزب بالشهيد، وهو الجندي الوحيد الذي تم إعدامه بعد ذلك الانقلاب بتهمة تورطه في اغتيال ضباط بيت الضيافة؟
كيف نفسر نفي الرائد عبد العظيم عوض سرور معرفته بوجود تنظيم للجنود بهذا الحجم، وهو من المشاركين الفاعلين في الانقلاب؟ 4
وكيف نفسر أنه ليس هناك أحد من المؤرخين الذين وثقوا لانقلاب ١٩ يوليو (فؤاد مطر، محمد سعيد القدال، عبد الله علي إبراهيم، عبد الماجد بوب، حسن الجزولي، عبد الله إبراهيم الصافي، عبد القادر الرفاعي، كمال إدريس… إلخ)، أو من الشهود المشاركين في الأحداث الذين أدلوا بشهادات صوتية (سعاد إبراهيم أحمد، صلاح بشير، أحمد محمد الهلالي، محمد أحمد الريح، يعقوب إسماعيل، عمر أحمد وقيع الله، أبو بكر عبد الغفار، علي شمو، عبد الله إبراهيم الصافي، عثمان الكودة… إلخ) قد ذكر واقعة إبادة ٢٠٠ جندي على الإطلاق، كشهداء أو ضحايا في ذلك الانقلاب؟
بل كيف نفسر غياب الإشارة لهؤلاء الجنود المائتين الذين تمت إبادتهم، حتى في الوثيقة الرسمية المفصلة التي أصدرتها سكرتارية نفس اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، في عام ١٩٩٦، بعنوان (تقييم ١٩ يوليو)؟
تصحيح وخاتمة:
أحب في هذه الخاتمة أن أصحح المعلومة أو الاستنتاج الذي ذكرته في عام ٢٠٠٤، والذي قلت فيه إنه لا ريب أن (بعض الجنود ممن وزعوا بيانات التأييد هذه قد انكشفوا، وقد قُتلوا، ولكن قيادة الحزب الأمدرمانية الصفوية لم تكلف نفسها عناء تحقيق سيرتهم وذكر أسمائهم). حيث يتضح لي اليوم، وبعد صدور عشرات الكتب والمقالات والتسجيلات عن انقلاب ١٩ يوليو، أنه ليس هناك أي جنود قد أُبيدوا أو قُتلوا، سواء كان الحديث عن مائتين أو عشرين أو اثنين.
وفي ظل ما ذُكر من تساؤلات أعلاه، نرمي الكرة في ملعب قيادة الحزب الشيوعي، لتوضح إن كان ما أتى في تقرير اللجنة المركزية عام ١٩٧١ حقيقة، وهي حينها ملزمة بأن تذكر أسماء أولئك الجنود وملابسات إبادتهم، حتى نحفظ لهم مكانهم في التاريخ. أو أنها اختلقت الأمر كله، وألقت علينا فرية ثقيلة، وعليها حينها أن تعتذر للشعب السوداني على تضليله بالمعلومات الكاذبة والتخرصات التاريخية.
المراجع:
١- أعمال دورة اللجنة المركزية سبتمبر – نوفمبر 1971 – نُشرت ضمن كتاب دورات اللجنة المركزية لدورات سبتمبر – نوفمبر 1971، يوليو 1972، مايو 1973، يناير 1974، والذي صدر عام ١٩٧٥.
٢- عادل عبد العاطي: نقاش في “سودانيز أونلاين”
https://sudaneseonline.com/…/%d8%b9%d9%80%d8%a8%d8%af…
٣- تاج السر عثمان بابو: الذكرى ٥٤ لانقلاب ١٩ يوليو ١٩٧١
https://sudanile.com/%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9…
٤- الرائد (م) عبد العظيم عوض سرور: حركة 19 يوليو 1971: التحضير – التنفيذ – الهزيمة. صفحات ١٥٠–١٥٢.
