ومن باب من لا يشكر الناس لا يشكر الله الواردة في الرسالة، ولأننا السودانيون قد عُرفنا بتجاهل قدر الرجال والنساء حتى يأتي يوم شكرهم، استغل هذه السانحة لاكتب بعض كلمات عن بروفيسور معز عمر بخيت.
لقد تعرفت على بروفيسور معز بصورة شخصية قبل ١٩ عاماً تقريباً، في عام ٢٠٠٦ وحين كانت البلاد مقبلة على انتخابات طالما انتظرناها، وحين كانت له الرغبة ان يخدم البلاد عبر خوض السباق الديمقراطي. لم يكن لنا مرشح آنذاك ونقلت رغبة ترشيحه وبرنامجه للحزب الليبرالي للنظر في دعمه. رغم ان الحزب لم يحسم القرار لصالحه حينها، ورغم انه لم يترشح إلا انه تأسست بيننا معرفة طيبة منذ ذلك الحين.
توثقت هذه المعرفة بعد ذلك في حوارات مختلفة في الاسافير حيث كان نشطاً بالكتابة في المنابر السودانية. اسس في وقت لاحق منتداه عكس الريح والذي كان منتدي ثقافياً حوارياً جميلاً ، حمل بعض روحه، وكان في لحظة ما المنتدى الوحيد الذي كنت اكتب فيه عندما كشر اصحاب المنتديات الاخرى عن انيابهم الشمولية وحجرهم على الراي، رغم ان بعضهم كانوا يدعون المعارضة والنضال من اجل حقوق الانسان، ورغم اننا من ساعدناهم بمعرفتنا ووقتنا وامكانياتنا في تأسيس تلك المنتديات.
لاحقاً توثقت العلاقات بيننا قبيل ثورة ديسمبر، وتحديداً منذ عام ٢٠١٧ ، وعملنا مع بعض طوال عامي ٢٠١٨-٢٠١٩ في دعم الحراك الشبابي والجماهيري والمدني، انا عبر سودان المستقبل وهو عبر مبادرة قيادة الثورة السودانية ( اثق)، وفي دعم مبادرات أثق الصحية والتعليمية التي كان هو قائدها، ولاحقاً بعد الثورة في مشاريع اخرى من بينها مشروع قناة ( نادوس) الفضائية.
في كل هذه السنوات عرفت بروفيسور معز إنساناً كريماً طيب المعشر، مهذباً وديمقراطياً من الطراز الأول. على عكس الكثير من الاطباء لم يكن يرى في مهنته الا خدمة الناس، وعلى عكس الكثير من السياسيين لم يكن من المنفردين بالرأي الواقفين على اراضي الايدلوجيات كريهي الفكر والمعشر .
عندما تم اختياره لمنصب وزير الصحة اشفقت عليه. ليس فقط لانهيار القطاع الصحي تماماً والحاجة لجهد الجبابرة لايقاف الانهيار، ناهيك عن النهوض به، وليس بسبب الجو الصعب للعمل في ظل الفوضى الدستورية والسياسية والادارية السائدة في السودان، ولكن قبل كل شيء لأنه مختلف تماماً عن المحيط السياسي والاجتماعي في السودان، حيث يصبح الإنسان الديمقراطي المهذب طيب المعشر كاليتيم على مائدة اللئام.
تحدثت مع البروفيسور عدة مرات بعد حادثة كسر احدى رجليه وفكك الاخرى، ورغم اقتناعي بضرورة الاصلاح وانه افضل من يمكن ان يقود وزارة الصحة حالياً، الا اني لم اصر عليه على المواصلة، خصوصاً بعد التطورات الصحية السلبية التي مر بها مؤخراً.
كنت اعرف ان بروفيسور معز يتعامل بجدية مع هذا التكليف وكنت ارى كيف ارهقته هذه الحادثة، نفسياً قبل البدن. ما كان الرجل يرغب ان يكون تمامة جرتق او ان يضيف فقط لقب وزير لسيرته الذاتية. كان يرغب في خدمة البلاد بشكل حقيقي ووفق برنامج علمي وخبرة وعلاقات راكمها خلال عشرات السنين . قلت له في احد الحوارات وبعد ان حسم امره انه اذا كسب راحة البال والجسد بالتنحي، الا ان السودان قد خسر لا محالة بارقة من الامل، وفرصة ان يقود قطاع الصحة فيه “حكيم” حقيقي.
التحية لك يا بروف وان شاء الله تبلغ الشفاء سريعاً، وتخدم هذه البلد الطيب اهلها من موقع آخر، وانت لم تكف عن خدمتها طوال السنين، وطوبي لك وشكراً ، يا واحداً من قليل الرجال المحترمين.
عادل عبد العاطي
٢١ اغسطس ٢٠٢٥م
