مرة اخرى حول اصل “عرب” السودان

إهتم وكتب الاستاذ خالد حسين Khalid Hussein نقداً لمقالي المختصر السابق حول الأصل الافريقي ( الكوشي – النوبي النيلو صحراوي) لعرب شمال السودان وكردفان ودارفور، وهو اهتمام ونقد اشكره عليه.

مع ذلك أعتقد أن النقد لم ينقض ما ذكرته من أسباب لزعمي حول الأصل الافريقي ل”عرب” السودان، وإنما أوضح إن هناك تعقيدًا في الأمر. وأنا لا أنفي التعقيد، بل ذكرت وجود مجموعات عربية قُحّة في السودان، لكني أتمسك بفرضيتي للأسباب التي ذكرتها، وأزيد عليها ما يلي.

١- الحجة التاريخية:

الحجة التاريخية في تبعية ارض الشمال النيلي وحتى سنار للنوبة، لم يقل بها ود ضيف الله فقط، وإنما قال بها الشيخ إدريس ود الأرباب حين عرض عليه الملك بادي ود رباط نصف ملكه، أي نصف “دار العسل والبصل”، وأراد أن يمنحه كركوج وسنجة ودار الشايقية ودنقلا، فرد قائلًا:

(الدار دار النوبة والأرض أرض النوبة وأنتم غصبتموها منهم. أنا لا أقبلها، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: من ظلم من الأرض شيئًا طُوِّقه من سبع أرضين”.)

وبدلاً من الأرض طلب أن يكون له الوساطة: (أعطوني الحجز في كل شيء، والوساطة، وفض المنازعات، والصلح بين المتشاجرين.)

اضيف إن تسمية الفونج نفسها ليست عربية، وإنما هي ترجمة لكلمة “المالكة”، وكان يقال: “العيلة فونج” أي الأسرة المالكة، ومنها بعد ذلك صار الاسم للشعب تحتها.

أما العبدلاب فقد كانوا قبائل عربية رعوية متنقلة، وكان لهم دور في إسقاط سوبا وتخريبها، وبعدها أسسوا منطقة قري ثم الحلفايا. ولكن لا عددهم ولا وزنهم كان يسمح لهم بالسيطرة والحكم، لذلك كانوا يتبعون للسلطان في سنار ويدفعون له الجزية.

وعلى الرغم من الحديث عن “الحلف السناري – العبدلابي”، فإن الأبحاث الحديثة تقول إن العبدلاب بعد هجومهم على سوبا حاربهم الفونج وهزموهم في أربجي عام 1504، وسادوا عليهم، وأصبح العبدلاب يدفعون الجزية لسنار مثلهم مثل بقية الأقاليم حتى دنقلا. وكان العبدلاب قبلها قبائل رعوية تحلم بالاستقرار والأرض، وكانت سوبا عقبة في طريقها، ولطالما شهد التاريخ هجوم البدو على الحضر.

كما إن تسرب العرب للسودان سابق للعبدلاب والفونج، فقد بدأ منذ دخولهم مصر وشمال إفريقيا، كما وصل بعضهم عن طريق البحر الأحمر والشرق، وكان لهم تأثير حتى في مملكة الأبواب، التي أسلمت غالبًا قبل سنار. إلا أن أعدادهم كانت قليلة، ونفوذهم ضعيف، فلم يستطيعوا السيطرة إلا بعد تحالفهم مع الفونج، الذين تحت “العيلة فونج” جمعوا أعدادًا كبيرة من الشعوب المختلفة مثل: البَرْتا، وبني شنقول، والهمج، والنوبة، والبِجَة، والأمبَرَرُو، والفُلانُو، والجافون، والموري، والدوقا، والقرا، والبرون، والبرنو، والبلدقو، والجَبلاويين، والحمدة، والرقاريق، والزبالعة، والزبرطة، والهوسا، والقباوين، والسركم، والفلاتة الفولاني. وكان لهم جيش يتجاوز مجموع عدد العبدلاب.

أما الكاتب أحمد المعتصم الشيخ فيطرح أطروحة ثالثة في كتابه مملكة الأبواب المسيحية – وزمن العنج، يقول فيها إن العنج (وهم مجموعة بجاوية وفقاً له) هم من أسقط الممالك المسيحية، ومن بينها سوبا، وإن الفونج بعد ذلك هزموهم (بمساعدة عرب العبدلاب)، وكان دور العبدلاب ثانويًا. ونفس الأمر تقريبًا طرحه ميرغني أبكر في كتاب الكوشي التائه، حيث يرفض الصورة الدرامية لسقوط سوبا، ويقلل من دور العبدلاب في ذلك، ويدلّل على أن العنج والفونج أنفسهم شعوب كوشية.

٢- الحجة اللغوية:

لم تقتصر الأدلة اللغوية التي أوردتها في بوستي السابق على ان الآلات والمصطلحات الزراعية في الشمال النيلي تسمياتها كوشية – نوبية، بل شمل ذلك الاصل اللغوي أيضًا أدوات ومرافق البناء، والطعام والشراب، وغير ذلك من جوانب الحياة اليومية. لقد كُتبت عشرات المقالات وبعض الكتب عن علاقة الدارجية السودانية باللغات النوبية والمروية، ويشهد التراث الشعبي نفسه على ذلك.

على سبيل المثال، وجدتُ في كتاب الانداية للاستاذ الطيب محمد الطيب (ص52 – الطبعة الأولى) قصيدة للشاعر البشير عمر البشير من منطقة الرباطاب يقول فيها:

“وللغنم جبت الكلاليق، وانت دابك في الكوانديق”.

كلمتا الكلاليق والكوانديق نوبية؛ الأولى تعني كومة من القش، والثانية تعني المكان الوعر عند الشاطئ. وهنا يبرز السؤال: هل كان العرب يجهلون القش حتى يستعيروا اسمه من لغة أخرى؟

حتى اسم الشايقية نفسه وبعض أسماء ملوكهم وقادتهم لها جذور نوبية. فيقال إن اول من دخل من العرب للسودان كان هو الأمير كردم ! هل كردم اسم عربي؟ – كما إن أول ملك منسوب للشايقية بعد المؤسس شايق هو كدنق أو كدنقا، ويرجّح أن الإسم مأخوذ من كلمة كاكنغا أي “الابن البكر”. أما اسم شايق فقد يكون في الأصل شاق، وهو اسم هذا الشعب كما هو مذكور في نقش كلابشة (القرن السادس قبل الميلاد) حيث ورد:

“اللاك تم هزيمتهم، والشاقا تم دحرهم وهزيمتهم، والناشدوك تم هزيمتهم، والتاميا (التاما؟) تم دحرهم، والنخابر تم هزيمتهم دحرًا كاملًا. ونساء الشاقا الطيبات شكرن والتمسن رفع مقامهن”.

هذا يشير إلى أن الاسم قديم، تم تعريبه لاحقًا، واختُلقت لاحقًا شخصية “شايق” لتناسب اقصوصة الأصل العربي. كذلك نجد أسماء ملوك وقادة آخرين للشايقية ذات أصل نوبي مثل كمبال، صبير، طمبل، وغيرها. فضلاً عن ذلك، فإن أسماء المدن والقرى في مناطق الشايقية والرباطاب وحتى الجعليين ذات أصول نوبية في معظمها.

كل ذلك يدل على أن اللغة العربية وافدة حديثًا نسبيًا، وأن بقايا اللغة النوبية والمروية ظلت حيّة حتى القرن العشرين، بعد قرون من عملية الاستعراب.

وقد أشار بعض الرحالة إلى أن الشايقية كانت “ترطن” ، مع استخدمهم للعربية، حتى بداية القرن التاسع عشر، وأن تعريب الفونج تم بعد قرون من أسلمتهم، ولم تصبح اللغة العربية اللغة الرسمية في السلطنة إلا بعد عقود طويلة من تأسيسها، حيث كان الناس في سنار لا يجيدون العربية لا كتابة ولا حديثًا، وهذا يوثقه كل من كاتب الشونة وود ضيف الله في كتابيهما المهمين عن السلطنة وحياتها الثقافية.

٣- الحجة النّسبية :

نواصل مع الأستاذ خالد حسين وننتقل إلى نقده للحجة النَّسَبية. أقول هنا إن ما ذكرته من رواية شفاهية حول الإصل النوبي للشايقية، له حجيته في ظل تكاثر الادعاءات بالنسب العربي وسطهم، وليس لعمّي الحسن أي مصلحة في ادعاء أو تغيير نسب. نفس هذا الأمر وثقه نيكولز عن شيوخ الشايقية في بداية القرن العشرين ، والذين انكروا الاصل العربي وقالوا انهم سكان اصليين للمنطقة، موحودين فيها منذ قديم الزمان.

هناك ملاحظتان جديرتان بالانتباه:

الأسماء والأنساب:

إلى جانب الأسماء ذات الأصل النوبي المباشر، نجد أن الأنساب للبيوت والعشائر في مناطق الشايقية تنتهي بـ “أب” كما عند البجا. بل إن الأمر يمتد إلى الرباطاب، الذين يُقال إن جدهم الأكبر اسمه “رباط”. وفي العربية لا يتم النسب بإضافة “أب”، وإنما هو تقليد بجاوي أصيل.

ظاهرة الشلوخ:

ظاهرة الشلوخ منتشرة بين أغلب “عرب” السودان، سواء في الشمال النيلي أو كردفان ودارفور، وإن كانت أكثر شيوعًا في الشمال النيلي. هذه الظاهرة ذات الأصل المروي–الافريقي لا وجود لها عند العرب إطلاقًا، ولو كان أصل “عرب” السودان عربياً لما عرفوا الشلوخ أو مارسوها. استمرار الشلوخ، وتقارب أنماطها مع ما هو موجود عند الشعوب النيلية وفي حوض النيجر، يوضح أن هذه عادات شعوب إفريقية أصيلة تعرّبت لغويًا وثقافيًا، وأن هذا التعريب لم يكتمل تمامًا، بدليل وجود الكثير من الممارسات الكوشية والنوبية في ثقافاتها حتى اليوم.

٤- الحجة الجينية :

اما النقطة الاخيرة في الرد على الاستاذ خالد حسين فهي النقطة الوراثية الجينية وهي اقوى نقاطي على الاطلاق .

لقد تمت دراسات مختلفة حول الاصل الجيني الوراثي للسودانيين ، تم بعضها في جامعة الخرطوم وبعضها خارجها، كما قام افراد بدراسة جيناتهم بصورة فردية عبر ارسالها لمعامل متخصصة في مثل هذا النوع من الابحاث.

كانت النتائج حاسمة حول الاصل الافريقي للسودانيين.

مثلاً تظهر دراسة أجريت على ٤٤٥ فردًا من ١٥ مجموعة سودانية مختلفة انه بين السلالات الجينية الذكرية (Y-DNA haplogroups) كان مجموع المجموعات السلالية الافريقية من شرق ووسط افريقيا ( A و B و E ) يعادل حوالي ٥٩ ٪؜ بينما كان المكون الشرق اوسطي السامي يعادل حوالي ٢٢.٥٪؜ في حين بلغ هذا المكون في بعض المجموعات الاكثر استعرابا حوالي ٤٨٪؜.

اما في السلالات الجينية النسوية فكان الأغلبية العظمى من النوبيين والسودانيين “العرب” ينتمون إلى السلالة الأفريقية L (بنسبة 82–94% حسب الجماعة)، مع نسبة ضئيلة تنتمي إلى سلالات غير أفريقية مثل M وN

تحديدا في المجموعات المسماة بالعربية مثل العركيين والجعليين والمسيرية كانت السلالات الافريقية عند الاناث ٩٠٪؜.

اللافت للنظر ان وجود السلالات غير الافريقية ( شرق اوسطية، اوروبية) كان اكثر انتشارا وسط البجة والنوبيين ، وليس المجموعات المستعربة، مما يدلل على ان بعض الجماعات وسط البجا تعرضت لهجرات مبكرة من شبه الجزيرة العربية في القرن الأول الميلادي، كما تعرض النوبيين لتداخل مع الاقباط، وهذا ما يفسر وجود السلالات الاوروبية والشمال الافريقية والاوسطية بينهم (مثل N وpreHV1 وN1a وN/J1b).

في حالة المسيرية مثلا، اثبتت الدراسة ان لديهم حوالي ١٥٪؜ مكوّن أوروبي- اسيوي عند الرجال، مقارنة ب٢٣-٤٨ ٪ عند عرب شمال السودان. وقد نشأ هذا المزيج قبل قرابة ١٩٠-٢٤٠ سنة، ما يدل على تبني للغة والثقافة دون تغيّر جيني عميق، اما عند النساء فهو كما في عرب الشمال يظل بنسبة ٩٠٪؜ مكون سلالي افريقي من وسط وشرق افريقيا.

خاتمة:

معلوم ان السودان قد تم استيطانه منذ مئات الالاف من السنين، وقد تطورت فيه ممالك وحضارات قبل تكوّن العرب حتى. وهنا يطرح السؤال نفسه: إذا كانت هذه المناطق كوشية–نوبية – نيلو صحراوية ذات تاريخ طويل وآثار مادية وثقافية، ولم تكن خالية من السكان بدليل آثارها الشامخة في البركل والكرو والبجراوية وسوبا الخ، فأين ذهب سكانها عند دخول العرب؟ هل تبخروا في الهواء أم هاجروا إلى المريخ؟

الشاهد إن التاريخ المكتوب والشفهي، ودلالات اللغة، ورمزيات الثقافة ، كما السحنة، والشلوخ، والحمض النووي الوراثي تحسم الأمر: هذه المجموعات التي تُسمى اليوم عربية إنما هم كوشيون، ونوبة، ونيلو–صحراويون، عاشوا في هذه البلاد لعشرات آلاف السنين، ثم استعربوا خلال القرون الخمسة أو الستة الماضية.

عادل عبد العاطي

١٢ أغسطس ٢٠٢٥م

المراجع:

يوسف فضل: مقدمة في تاريخ الممالك السودانية في السودان الشرقي

تاج السر عثمان: مقال: تحالف الفونج والعبدلاب: الخصائص والدوافع (1504–1821م).

الشاطر بصيلي عبد الجليل، معالم في تاريخ سودان وادي النيل.

د. عمر أحمد فضل الله: مقال: العيلفون: صانعة تاريخ وأرض أمجاد.

د. مبارك مجذوب الشريف: مقال : أصل الشايقية من منظور اللغة المروية.

و. نيكلولز، الشايقية، ترجمة عبد المجيد عابدين.

عباس محمد زين، صور من حياة الشايقية في القرن التاسع عشر، الجزء الأول.

أحمد المعتصم الشيخ: مملكة الأبواب المسيحية – وزمن العنج،

الطيب محمد الطيب : الانداية.