المقدمة:
يقع السودان في قلب الدرع العربي النوبي (Arabian-Nubian Shield) الممتد من مصر شمالًا حتى كينيا جنوبًا، ومن السعودية شرقًا حتى الصحراء الكبرى غربًا. تشكّل الدرع بين 870 – 550 مليون سنة، ويُعد من أكبر مناطق القشرة “الفتية” على الأرض (juvenile crust)، غنية بالمعادن النفيسة والصناعية في السعودية والسودان وجنوب السودان والكنغو وإرتريا وإثيوبيا.
في ضمن هذا الدرع تكونت أهم الأنماط المعدنية في السودان من ذهب وأوردة كوارتزية (orogenic & epithermal gold) وكبريتيدات نحاس وزنك (VHMS) ونحاس رسوبي (sediment-hosted Cu) وبوكسيت وألومنيوم محتمل في ولايات دارفور وجبال النوبة ، فضلاً عن وليثيوم وتنتالوم في بجماتيت بجبال البحر الأحمر وجنوب النيل الأزرق وسيليكا عالية النقاوة في الشمالية ونهر النيل وشمال كردفان.
ورغم إن السودان يجلس على واحد من أغنى الأقاليم الجيولوجية في العالم ، إلا إن التركيز المفرط على الذهب جعل البلاد تفقد فرصًا ضخمة في تعدين وإنتاج بقية المعادن مثل النحاس، الليثيوم، السيليكا، الكوبالت، الخ وهي معادن استراتيجية للمستقبل.

السياسات الحالية والقوانين المنظمة:
يعتمد الإطار القانوني لسياسات التعدين على عدة قوانين ولوائح من بينها قانون الثروة المعدنية والتعدين لعام 2015 (تعديل لقانون 2007) والذي يمنح وزارة المعادن حق الإشراف والتنظيم على القطاع، ويضع تقسيمات: امتياز – استكشاف – تعدين صغير – تعدين تقليدي لعمل الشركات والمناجم والنشاطات المختلفة في هذا القطاع.
على أساس هذا القانون تم إنشاء الشركة السودانية للمعادن كذراع رقابي مالي/فني للوزارة، بينما يسمح القانون بمشاركة الشركات الوطنية والأجنبية وفق نظام عقود الامتياز، مع رسوم إتاوة (royalty) وضريبة أرباح.
السياسات الفعلية الحالية تتركز على تعدين الذهب والذي يمثل 80–85% من قيمة الصادرات المعدنية. في داخل هذا الإطار الضيق نجد إن التركيز منصب على التعدين الأهلي (التقليدي) الذي يضم أكثر من مليوني عامل، مع ضعف النشاط والرقابة على المعادن الأخرى (النحاس، الكوبالت، الليثيوم)، وذلك في ظل غياب إستراتيجية متكاملة للمعادن الصناعية، حيث لا توجد خطط قومية لتطوير قطاع النحاس والليثيوم والسيليكا رغم الطلب العالمي. كما أدى ضعف التنسيق بين وزارة المعادن ووزارات أخرى (الطاقة، البيئة، الصناعة، المالية) الى ثغرات عظيمة في هذا المجال.
الإنتاج الحالي وواقع التصدير :
كما اسلفنا يشكل الذهب اكبر منتج معدن حاليا ويبلغ الإنتاج السنوي الرسمي ما بين 50 – 90 طن، في ظل وجود قطاع غير رسمي يعتقد انه يمثل حوالي 40–70% من الإنتاج يذهب اغلبه عن طريق التهريب مسببا خسائر في حدود 1-2.5 مليار دولار سنويا للخزينة العامة.
فيما يتعلق بالاستثمار الأجنبي هناك شركات كبرى عملت في هذا المجال مثل أرياب الفرنسية سابقًا، كما نشطت فيه شركات روسية، تركية، مصرية، محلية). أغلب هذا الاستثمار الأجنبي غير مقنن بشكل واضح.
المنتج الثاني هو النحاس والزنك حيث تم إنتاج بسيط في مناجم هساي/أرياب كانت تنتج Cu-Zn-Au-Ag منذ الثمانينات (بالتعاون مع شركة فرنسية). تراجع الإنتاج بسبب قلة الاستثمارات وتخلف التكنولوجيا.
فيمايتعلق بالكوبلت والنيكل هناك مؤشرات جيولوجية مشجعة في جبال البحر الأحمر وجنوب كردفان ولكن لم تبدأ مشروعات صناعية جادة رغم الطلب العالمي. أما الألومنيوم والبوكسيت فهناك مناطق إنتاج محتملة في جبال النوبة ودارفور، غير مستكشفة بالكامل.
يوجد الليثيوم بكميات مشجعة بجماتيت في البحر الأحمر والنيل الأزرق ولم يُستغل حتى الآن، رغم كونه “معدن المستقبل” للبطاريات. كما توجد احتياطيات ضخمة لمعدن السيليكا في الشمالية ونهر النيل وشمال كردفان (عالية النقاوة تصل 99%). هناك استغلال محدود يذهب للتصدير كخام، مع عدم وجود صناعة زجاج/ألواح شمسية محلية تستخدم هذا المعدن.

المعوقات والتحديات لقطاع التعدين:
هناك مجموعة من المعوقات المؤسسية والسياسية، من أهمها عدم الاستقرار السياسي وضعف الإطار القانوني، غياب الحوكمة والفساد في عقود الامتياز، وتهريب الذهب وضعف الرقابة الجمركية.
أما المعوقات الفنية والتقنية فتشمل محدودية الدراسات الجيولوجية التفصيلية الحديثة (آخر مسح قومي شامل تم في الثمانينات)، وضعف البنية التحتية (طرق، كهرباء، مياه) في مناطق التعدين ونقص المعامل الجيوكيميائية والمتخصصة في المعادن.
وتضم المعوقات الاقتصادية الاعتماد على تصدير خام بدون قيمة مضافة، وغياب التمويل طويل الأمد للمشاريع الكبرى، والمنافسة غير العادلة بين التعدين التقليدي والشركات المنظمة.
فضلاً عن ذلك نرصد وجود عدد من المعوقات البيئية والاجتماعية مثل النزاعات المجتمعية حول الأراضي، وغياب التعويضات واستخدام الزئبق والسيانيد في التعدين التقليدي (ملوثات خطيرة).
الحلول والسياسات المقترحة:
نظراً للمعوقات الرئيسية نقترح التالي من الحلول والسياسات:
1. في حيز إصلاح الإطار المؤسسي نقترح دمج وزارات الصناعة والطاقة والتعدين في وزارة واحدة ، وإنشاء هيئة وطنية مستقلة للمعادن الصناعية (غير الذهب)، مهمتها تطوير تعدين النحاس، الزنك، الكوبالت، الليثيوم، السيليكا وتحديث قانون التعدين ليلزم الشركات بالقيمة المضافة (processing & refining) وإعادة هيكلة وتطوير وتقوية الشركة السودانية للموارد المعدنية بالكوادر والتمويل.
2. في مجال التطوير الفني يجب إطلاق برنامج مسح جيولوجي قومي جديد باستخدام تقنيات الاستشعار عن بعد بالأقمار الصناعية والمسيرات وتقنيات الذكاء الاصطناعي وإقامة مراكز بحث وتدريب مرتبطة بالجامعات (جيولوجيا – هندسة تعدين).
3. أما في مجال التكامل الصناعي فلا بد من إنشاء مصفاة للذهب في السودان، وأخرى للنحاس والزنك ومشاريع لبطاريات الليثيوم. في هذه المشاريع الثلاثة يمكن عقد شراكات مع قطر/ السعودية ( مصفاة الذهب) والصين/ الهند ( مصنع بطاريات الليثيوم واستراليا/ بولندا في حالة مناجم ومصفاة النحاس، كما تطوير صناعة الزجاج والخلايا الشمسية باستخدام السيليكا ( بالشراكة مع ألمانيا).
4. في مسألة التمويل والشراكات لا بد من تشجيع صناديق الاستثمار الإفريقية والعربية والدولية للدخول في القطاع، وإنشاء وتفعيل دور كل من صندوق التنمية وإعادة البناء السوداني والبنك السوداني/ الأفريقي للبنية التحتية لتمويل مشاريع التعدين.
5. فيما يتعلق بقضايا الحوكمة و والشفافية لا بد هنا من الانضمام الكامل لمبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية (EITI) وإشراك المجتمعات المحلية عبر عقود المنفعة المشتركة (Community Benefit Agreements).
6. لا يزال الزئبق يشكل احد التحديات البيئية الأشد خطرا، لذلك لا بد من حظره تدريجيًا واستبداله بتقنيات صديقة لللبئية و والاستدامة، وإلزام الشركات بخطط إعادة تأهيل الأراضي المستخدمة في التعدين ومراقبة جودة المياه والهواء حول مواقع التعدين.
خاتمة :
بتنفيذ حزمة سياسات و وإجراءات تهدف إلى الإصلاح المؤسسي بما في ذلك أعادة الهيكلة للمؤسسات المشرفة على التعدين، و إصلاح القوانين، وجذب الاستثمارات عن طريق سياسة استثمارية شرسة، وتبني نهج شفاف ومستدام، يمكن لقطاع التعدين أن يتحول من نشاط تقليدي محدود القيمة إلى قاطرة تنمية صناعية وتكنولوجية خلال العقد القادم.
22 اغسطس 2025
ملاحظة: هناك دراسة تفصيلية من 50 صفحة حول تطوير قطاع التعدين والصناعة المرتبطة بالتعدين بالسودان، أعددتها لصالح المؤسسة الأوروبية – الافريقية ومقرها وارسو، موجودة على هذا الرابط
