مقدمة:
قد تكون أكبرَ حالةِ حبٍّ مُعلَن لرجل دينٍ إسلامي (بعد حبِّ الرسول الكريم للسيدة عائشة) هي حالةَ حبِّ الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي للفتاة التي سُمّيت بـ”نِظام” أو “النِّظام”، ولقّبت بـ”قُرَّة العين”، وهي التي كتب عنها ديوانَه ترجمان الأشواق، ولا فَتِئ يذكُرُها من حينٍ لآخر، علامةً على الحب الأبدي والمُعلَن.
قراءة المزيد: ابن عربي والنظام- قصة حب معلنقصة اللقاء:
ويحكي ابن عربي عن أوّل لقائه بنِظام أو قُرّة العين، فيقول في كتابه ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق:
“كنت أطوف ذات ليلة بالبيت، فطاب وقتي، وهزّني حال كنتُ أعرفه، فخرجتُ من البلاط من أجل الناس، وطفتُ على الرمل، فحضرتني أبياتٌ فأنشدتُها أُسمِع بها نفسي ومن يليني – لو كان هناك أحد – وهي قوله:
ليت شعري هل دروا ** أيّ قلبٍ ملكوا
وفؤادي لو درى ** أيّ شُعبٍ سلكوا
أتراهم سلِموا ** أم تراهم هلكوا
حار أربابُ الهوى ** في الهوى وارتبكوا
فلم أشعرْ إلا بضربة بين كتفي بكفٍّ ألينَ من الخزّ، فالتفتُّ فإذا بجاريةٍ من بنات الروم، لم أرَ أحسنَ وجهاً، ولا أعذبَ منطقاً، ولا أرقَّ حاشية، ولا ألطفَ معنى، ولا أدقَّ إشارة، ولا أظرفَ محاورةً منها؛ قد فاقت أهل زمانها ظرفاً وأدباً وجمالاً ومعرفة، فقالت: يا سيدي، كيف قلت؟ فقلت: ليت شعري هل دروا ** أيّ قلبٍ ملكوا.
فقالت: عجباً منك، وأنت عارفُ زمانك، تقول مثل هذا! أليس كل مملوك معروفاً؟ وهل يصحّ الملك إلا بعد المعرفة؟! وتمنّي الشعور يؤذِن بعدمها، والطريق لسانُ صدق، فكيف يجوز لمثلك أن يقول مثل هذا؟ قل، يا سيدي، ماذا قلتَ بعده؟ فقلت: وفؤادي لو درى ** أيّ شُعبٍ سلكوا.
فقالت: يا سيدي، الشُّعَبُ التي بين الشغاف والفؤاد هي المانع له من المعرفة؛ فكيف يتمنّى مثلك ما لا يمكن الوصول إليه إلا بعد المعرفة؟! والطريق لسانُ صدق، فكيف يجوز لمثلك أن يقول مثل هذا، يا سيدي؟! فماذا قلتَ بعده؟ فقلت: أتراهم سلِموا ** أم تراهم هلكوا.
فقالت: أمّا هم فسَلِموا، ولكن أسأل عنك؛ فينبغي أن تسأل نفسك: هل سلِمتَ أم هلَكتَ، يا سيدي؟ فما قلتَ بعده؟ فقلت: حار أربابُ الهوى ** في الهوى وارتبكوا.
فصاحت وقالت: يا عجباً! كيف يبقى للمشغوف فضلةٌ يُحار بها؟ والهوى شأنه التعميم، يُخدِّر الحواس، ويذهب العقول، ويُدهش الخواطر، ويذهب بصاحبه في الذاهبين؛ فأين الحيرة؟! وما هنا باقٍ فيُحار، والطريق لسانُ صدق، والتجوُّز من مثلك غير لائق.”
التعارف:
ويمضي ابن عربي بعد هذا الحوار العجيب الذي أفحمته فيه الفتاة، فيذكر:
“فقلتُ: يا بنت الخالة، ما اسمك؟ قالت: قُرَّة العين. فقلتُ: لي. ثم سلّمتْ وانصرفتْ. ثم إني عرفتها بعد ذلك وعاشرتُها، فرأيتُ عندها من لطائف المعارف الأربع ما لا يصفه واصف.”
ومن الواضح أن الفتاة كانت تعرف ابن عربي؛ إذ تسميه بـ”عارف زمانه”، وهو لا يعرفها، مع أنه كان يعرف أباها، وكان صديقاً روحياً له، وقد ذكره في نفس الكتاب وفي مواضع أخرى، وهناك دلائل على تعاونهما العلمي وأخوتهما الروحية، حيث يقول:
“فإني لما نزلت مكة سنة خمسمائة وثمانٍ وتسعين، ألفيت بها جماعةً من الفضلاء، وعصابةً من الأكابر والأدباء والصلحاء، بين رجال ونساء، ولم أرَ فيهم – مع فضلهم – مشغولاً بنفسه، مشغوفاً فيما بين يومه وأمسه، مثل الشيخ العالم الإمام، بمقام إبراهيم عليه الصلاة والسلام، نزيل مكة، البلد الأمين، مكين الدين أبي شجاع زاهر بن رستم بن أبي الرجاء الأصفهاني – رحمه الله.”
قصة حبٍّ مُعلَن:
ويمضي ابن عربي أكثر ليصف “النظام” أو “قُرَّة العين”، في كلمات تنضح بالحب، فيقول:
“وكان لهذا الشيخ – رضي الله عنه – بنتٌ عذراء، طفيلةٌ هيفاء، تقيّد النظر، وتُزيِّن المحاضر، وتحيّر المناظر، تُسمّى بالنظام، وتلقّب بعين الشمس، وإليها من العابدات العالمات السابحات الزاهدات، شيخة الحرمين، وتربية البلد الأمين الأعظم بلامين، ساحرة الطرف، عراقية الظرف، إن أسهبتْ أتعبتْ، وإن أوجزتْ أعجزتْ، وإن أفصحتْ أوضحتْ، إن نطقتْ خَرِسَ قُسُّ بن ساعدة، وإن كرُمتْ خَنِسَ معنُ بن زائدة، وإن وَفَتْ قصّر السموأل خُطاه، وأغرى ورأى بظهر الغُرر وامتطاه.”
ويمضي أكثر ليقول:
“ولولا النفوسُ الضعيفة، السريعةُ الأمراض، السيئةُ الأغراض، لأخذتُ في شرح ما أودع الله تعالى في خلقها من الحُسن، وفي خُلُقها الذي هو روضةُ المزن، شمسٌ بين العلماء، بُستانٌ بين الأدباء، حُقَّةٌ مختومة، واسطة عقدٍ منظومة، يتيمةُ دهرها، كريمةُ عصرها، مسكنُها جياد، وبيتها من العين السواد، ومن الصدر الفؤاد، أشرقتْ بها تهامة، وفتح الروضُ لمجاورتها أكمامه… عليها مسحةُ مَلَك، وهمّةُ مَلِك… فقلّدناها من نَظْمنا في هذا الكتاب ترجمان الأشواق أحسن القلائد بلسان النسيب الرائق، وعبارات الغزل اللائق، ولم أبلغْ في ذلك بعضَ ما تجده النفس من كريم ودّها وقديم عهدها، إذ هي السُؤْلُ والمأمول، والعذراء البتول، ولكن نظّمنا فيها بعضَ خاطر الاشتياق من تلك الذخائر والأعلاق… فكلُّ اسمٍ أذكره في هذا الجزء فعنها أُكنّي، وكلُّ دارٍ أندبها فدارها أعني.”
زواج الشيخ من النظام:
ورغم أن حبّ ابن عربي للنظام أمرٌ مُعلَن، فقد حاول السلفيون – ولا يزالون – أن يجعلوا منه منقصةً في حق الشيخ؛ والذي تشير كل الدلائل إلى أنه تزوّج بالنظام؛ ومن ذلك قوله:
“فقلت: يا بنت الخالة، ما اسمك؟ قالت: قُرَّة العين. فقلت: لي.”مما يعني عزمه على زواجها؛ وخصوصاً لما اتّضح أنها بنت صديقه، ولِما رأى فيها من علمٍ وملاحةٍ وذكاء، مما أسرف في وصفه. ثم إن ابن عربي يقول:
“ثم إني عرفتها بعد ذلك وعاشرتُها، فرأيتُ عندها من لطائف المعارف الأربع ما لا يصفه واصف.”
ولا يُعقَل لمن كانت بنتَ زعيمٍ ورجلِ دينٍ أن تكون معرفتها ومعاشرتها لابن عربي حتى يجد منها “ما لا يصفه واصف” إلا في سياق الزواج.
على أن ابن عربي يذهب أبعد من ذلك؛ حين يقول في كتابه محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار – والذي ينقل فيه الكثير من قصائده عن النظام – بعد أن يحكي قصة لقائه معها:
“وكان لنا أهلٌ تُقرّ العين بها، ففرّق الدهر بيني وبينها، فتذكّرتُها ومنزلها بالحلة من بغداد.”
وكلمة “أهل” في اللغة التراثية تعني الزوجة، أما قوله “تقر العين بها”، فهو قطعاً إشارة للقبها “قُرَّة العين”، وهو من أساليب ابن عربي البلاغية في المجاز والإشارة، إلا أن الإشارة واضحة هنا بأنها كانت زوجته. ولا نعلم سرّ افتراق ابن عربي عنها، أو افتراقها عنه، ولكننا نعلم قطعاً أنها سكنت بغداد بعد ذلك؛ وفي ذلك يقول ابن عربي:
أحبُّ بلادَ الله لي بعد طيبةٍ ** ومكةَ والأقصى مدينةُ بغدان
ومالي لا أهوى السلامَ ولي بها ** إمامُ هُدى ديني وعقدي وإيماني
وقد سكنتها من بَناتِ فارسٍ ** لطيفةُ إيماءٍ مريضةُ أجفان
تُحيِّي فتُحيِي من أماتتْ بلحظها ** فجاءتْ بحُسنى بعد حُسنٍ وإحسان
ترجمان الأشواق – أثر الحب الباقي:
إلا أن الأثر الباقي من قصة الحب المُعلَن يظل كتاب ترجمان الأشواق، والذي من الواضح أن قصائده قد كُتبت في فترات مختلفة؛ بدءاً من سنة 598 هـ، وهي السنة التي تعرّف فيها على النظام، ثم جمعها في كتاب واحد في تلك السنة. وربما أضاف ابن عربي للكتاب بعد ذلك قصائد جديدة، وأصدر الكتاب بنسخته النهائية بعد ذلك بسنين، ذلك أن ابن عربي حين يذكر أبا النظام في مقدمة الكتاب، فإنه يترحّم عليه، وتقول المراجع إن الرجل قد مات عام 609 هـ، فوق إشارة الديوان إلى أماكن عديدة في بغداد والبصرة، والتي لم يزرها ابن عربي إلا في سنتي 601 ثم 608 هـ.
ولما كان كتاب ترجمان الأشواق قد أثار الكثير من الضجّة، وجعل بعض فقهاء الشام يشنّعون على ابن عربي، فقد تقدم صاحباه بدر الحبشي وإسماعيل بن سودقين يطلبان إليه شرح هذا الديوان، رغم أن ابن عربي قد كتب في مقدمة الديوان أن كلَّ ما يذكره من أسماء ومديح وغزل في هذا الكتاب إنما هو إشارة إلى معانٍ إلهيةٍ رفيعة. وقد أضاف ابن عربي في الباب 98 من كتابه الموسوعي الفتوحات المكية أن ما يذكره في أشعاره – فيما يخص ترجمان الأشواق وغيره – “أنها كلّها معارفُ إلهيةٌ في صورٍ مختلفة من تشبيبٍ ومديحٍ وأسماء نساءٍ وصفاتهنّ وأنهارٍ وأماكن ونجوم”.
خاتمة:
لكن لم يكن كلُّ هذا مُقنِعاً للفقهاء الغلاظ؛ لهذا السبب اضطر ابن عربي لكتابة كتابٍ آخر، شرحاً للديوان، وهو كتاب ذخائر الأعلاق في شرح ترجمان الأشواق، كتبه عام 611 هـ في حلب، وقال فيه تبريراً:
“ولم أزل فيما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية، والتنزلات الروحانية، والمناسبات العلوية، ولعلمها – رضي الله عنها – بما إليه أُشير، ولا يُنبّئك مثل خبير، والله يعصم قارئ هذا الديوان من سبقِ خاطره إلى ما لا يليق بالنفوس الأبية، والهمم العليّة المتعلقة بالأمور السماوية، آمين بعزّة من لا ربّ غيره، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.”
وقد يكون في الحب من مثل ذلك كلّه، إذا كان – كما يقول ابن عربي – ديناً وإيماناً.
عادل عبد العاطي
23–9–2008
